منذ أن أعلن اللواء عصام أبو جمرة( أحد أركان الحكومة العسكرية التي ترأسها الجنرال ميشال عون عام ١٩٨٩) انشقاقه عن الرئيس عون قبل عدة سنوات، واتّهامه لعون بتحويل حكمه إلى حكم السلطان والعائلة، وقوافل المنشقّين تزداد وتتعاظم، ومن بين أبرزهم في الآونة الأخيرة النواب السابقين حكمت ديب، وزياد أسود وشامل روكز، والعميد المتقاعد فايز كرم، وعددٍ لا يُحصى من الإعلاميّين والناشطين. تبقى ملاحظة جديرة بالاهتمام تطبع مسيرة هؤلاء المنشقين والعاكفين والسّاخطين، والساكتين على مضض، وفحوى هذه الملاحظة أنّ معظم هؤلاء المعترضين يصبّون جام غضبهم على نهج جبران باسيل وسياساته وإدارته لشؤون التيار الوطني الحر، بعد استلامه رئاسته من الرئيس ميشال عون، دون التّعرّض لبؤس التجربة العونية، وخوائها وفقرها الإيديولوجي المُزمن، ولم يجرؤ أحدٌ منهم، إلّا ما رحم ربّك، على الإعتراف بخيبة هذه الضاهرة من بدايتها إلى نهايتها القريبة، فالجنرال عون لم يُقدم يوماً رؤية سياسية واضحة لهوية لبنان، ومصير كيانه وصيرورة نظامه، فهو لم يقم سوى ببعض المغامرات العسكرية، بلا أفقٍ محددٍ لها، ولم تنتظم تجاربه السياسية قبل الحكم وبعده، في عقيدةٍ راسخة يمكن الدفاع عنها والإقتناع بها، لا بل حكمت معظم هذه التجارب: التناقضات والغوغائية والإنتهازية وانعدام المصداقية، فهو لم يبتدع على سبيل المثال ما خلّفه ميشال عفلق في عقيدة بعث "القومية العربية"، ولا عقيدة أنطون سعادة في "القومية الإجتماعية السورية"، وهو لم يرقَ إلى فكر أميل إدّة وشارل قرم في فكرة "القومية الفينيقية"، أو فكر ميشال شيحا وألفرد نقاش في فكرة" اللبنانية التجارية"، أو تجربة الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح في "اللبنانية العربية"، ولا الرئيس فؤاد شهاب في تجربته السياسية والاجتماعية الإصلاحية، ولا تجربة الرئيس بشير الجميّل في" اللبنانية الخالصة". لهذا كله بات على من يطمح للخروج من العباءة العونية البالية والبائسة، أن يصوغ فكراً سياسيّاً جديداً ومُبتكرا، يكون جديراً بالاحترام والقبول، مع نقدٍ صريحٍ وجريئٍ للتجربة العونية برُمتها، والتي راهن عليها للأسف الشديد جمهورٌ مسيحيٌّ عريض، فباءت رهاناته إلى الفشل الذريع، مع طور احتضار هذه التجربة المشؤومة. كان الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم يقول عن اليسار المصري" دول جماعة ميؤس منها، بيتكلموا كثير بدون فايده، ربما هذه هي حال العونيين هذه الأيام الحالكة.