إن الاستعصاء السياسي والأمني في لبنان ليس بالمستجد وأسبابه المركبة والمتداخلة محلية وإقليمية في آن. في الجانب الداخلي، وللإنصاف، جزء كبير من الأزمة هو مسؤولية لبنانية صرفة. فمنذ استقلاله، لم يقُم لبنان على أسس هيكلية ومؤسساتية تعزز قيام الدولة والمواطنة، بل على أسس طائفية جعلت منه منذ البدء مساحة جغرافية تضم مجموعة من الطوائف، عين كل واحدة منها على حامٍ خارجي. لم يتمكن من الارتقاء ليصبح وطناً، كما لم يندمج اللبنانيون ويخرجوا من لبوسهم الطائفي ليصبحوا مواطنين . 

 

 

الأزمة في لبنان تتعدى ظاهر الأمور لتصل إلى رغبة  بعض القوى السياسية، بإعادة النظر في الكيان والدولة والشرعية الميثاقية، بحيث، وفي صريح القول، أضحت الديمقراطية البرلمانية اللبنانية مجرد واجهة لاستقواء تلك القوى، عوض أن تكون عملية توسيع المشاركة الوطنية وباتت عاجزة عن مواجهة مخطط تعديل قسري للتركيبة القائمة على نحو يطيح بالميثاقية وبالقواعد الدستورية والاستعاضة عنها بممارسات واعراف سياسية  بديلة عن الدستور، وهنا بيت القصيد في المشكلة اللبنانية 

 


عشية انفجار الرابع من آب 2020، طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادرة فرنسية لعقد طاولة حوار تجتمع حولها القوى اللبنانية للبحث في النظام. لكن ما لبث أن انطوى الاقتراح بعد بروز اعتراضات كثيفة ومتنوّعة المشارب في لبنان، خوفا من عدد من السيناريوهات لتأمين غطاء دستوري للثلث المعطل، تحت عنوان المثالثة

 

منذ ذلك الحين يستمر في البروز، بين الحين والآخر، انطباع مفاده أن باريس تعمل تحت الطاولة لتستقبل حواراً وطنياً لبنانياً يجمع رؤساء الأحزاب وسياسيين وناشطين . 

اليوم وعلى مقربة من فراغ رئاسي، قد يكون الأخطر على البلاد من حيث التوقيت والظروف السياسية والاقتصادية المحيطة به، لا تبدو فكرة انعقاد أي مؤتمر في باريس حقيقية. بل كل المؤشرات تقود إلى أن سويسرا تقوم بمسعى مع ممثّلين من الدرجة الثانية عن القوى اللبنانية المختلفة من أجل أن يعقدوا ما يمكن وصفه بنسخة تجريبية عن طاولة الحوار، التي اشتهرت في لبنان خلال العقدين الماضيين . 

 

 

الهدف حصول نقاشات وطرح أفكار ترعاها سويسرا بصفتها حاضنة اللقاءات والمؤتمرات الدولية في الأمم المتحدة

 


فعلى سبيل المثال وليس الحصر، عام 1984، اجتمع أقطاب الحرب اللبنانية في مدينة لوزان السويسرية، حيث اتّفقوا على إطار يعطي الأولوية لوقف إطلاق النار بين المتقاتلين ويقرر عودة الجيش اللبناني إلى ثكناته وتشكيل هيئة لمراجعة الدستور. وكان انفجار مقر قيادة المارينز في لبنان، في 23 تشرين الأول 1983، ثمّ انتفاضة 6 شباط 1984، سبباً رئيسياً في التوصّل إلى الاتفاق، خصوصاً أن مؤتمر جنيف في 1983 لم يفضِ إلى نتيجة

اليوم تعود سويسرا لتلعب دوراً في جمع القوى اللبنانية بعد مرور 38 عاماً، لكن هذه المرّة من بوابة جمعية سويسرية وهي جمعية مموّلة من وزارة الخارجية السويسرية وتعمل منذ سنوات على المجتمع الأهلي والسياسي في لبنان.

 

 

 وقد قامت بالتحصير للورشة الحوارية هذه التي تأخّرت بفعل الظروف السياسية وعدم نضوج الاستعداد الفرنسي لها .

 


أما وقد حصل الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، فقد وصلت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا إلى لبنان لتحتفل بما تعتبره فرنسا إنجازاً لها أيضاً، من خلال وجود شركة توتال الفرنسية في الحقول النفطية اللبنانية. وسط معلومات عن بحث العواصم المعنية بالوضع اللبناني في كيفية تثبيت مفاعيل هذا الترسيم من النواحي الأمنيّة والاقتصادية والسياسية.

 

 

فمن هذا المنطلق، وبعيداً عن الإعلام أعطى الضوء الأخضر للجمعية للبدء بورشة عملها المقتصرة على طرح أفكار للنقاش في كيفيّة تطوير المشهد السياسي اللبناني .

 


في المعلومات التي تم تداولها أن عشاءً كان سيقام في بيروت في السفارة السويسرية سيحضره ممثّلون عن الأحزاب اللبنانية وعدد من الشخصيات المستقلّة. على أن يتشارك المجتمعون أفكارهم وطروحاتهم حول مستقبل البلاد
 


فهل يقود هذا الحراك السويسري إلى جمع الممثّلين أنفسهم على طاولة أخرى لاحقة في المدينة التي طالما رعت حوارات لحل نزاعات العالم .

 


ترجح المصادر المطّلعة على هذا المسعى أن الأسابيع المقبلة ستشهد انعقاد طاولة حوار تجتمع حولها الشخصيات المدعوة على خطّ بيروت – جنيف لتضع أفكاراً تسهم في تطوير لبنان على المستويات كافة لكن  من دون أن يصل ذلك إلى نسف اتفاق الطائف .

 


وفي المعلومات أن سويسرا تعمل على مسار طويل الأمد لإنعاش الوضع في لبنان على المستويات كافّة، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك الجيوسياسية لجهة إعادة صيانة علاقات لبنان الدولية والإقليمية
بعد الترسيم الذي يضمن استقرار الحدود مع إسرائيل، يعمل المجتمع الدولي على ضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وذلك للمحافظة على مكتسبات الترسيم. وبالتالي لا بد من الربط بين الترسيم وتوجهات المجتمع الدولي تجاه لبنان التي لا يمكن وضع المبادرة السويسرية إلا ضمن اطرها . 

 


هنا لا بد من التذكير ببيان نيويورك الثلاثي، بين وزراء خارجية أميركا وفرنسا والسعودية، والذي كان لافتاً في تأمينه غطاءً ،عربياً ودولياً، لاتفاق الطائف. وهو بالتأكيد يتعارض مع فكرة مؤتمر جنيف فهل بدأت الحرب على الطائف بشكل علني، بعد سنوات من المناورات.