قُضي الأمر واكتمل الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بعد مد وجزر في «المياه الساخنة» التي ستخضع بعد الآن إلى التبريد. ولكن ماذا عن مفاعيل هذا التطور الاستراتيجي؟


إذا كان من المبكر تَلمّس المردود المادي للمخزون النفطي والغازي في البلوكات اللبنانية، الا ان مجرد إنجاز الترسيم وإعطاء الضوء الأخضر للشركات كي تباشر في التنقيب والاستكشاف يؤشران الى دلالات في غاية الأهمية ويتركان آثاراً أولية على الوضع اللبناني في انتظار الانتقال لاحقاً إلى المرحلة الثانية التي سيبدأ معها الاستخراج والاستثمار.

 

 

وبمعزل عن الخلاف الداخلي بين أنصار الخط 29 والمقتنعين بالخط 23، الا انّ الأكيد هو ان ما تحقّق يشكل إنجازاً بالمقارنة مع ما كان معروضا خلال المراحل السابقة من المفاوضات.


 

 

ولعل الوقت حان لرسم خط من نوع آخر، بفصل بين ما قبل وما بعد الترسيم ويضع حدا لسجال لم يعد مفيدا بعدما جرى إتمام الاتفاق.

 

 

ولئن كان هناك رابحون عديدون من هذا الاتفاق، غير ان رئيس الجمهورية ميشال عون يشعر على الارجح بأنه في طليعة هؤلاء لأنه نجح قبل نحو اسبوعين فقط من انتهاء ولايته في التوصل الى إنجاز نفطي تاريخي من شأنه ان يخفّف نسبياً من وطأة الازمات التي عصفت بعهده، كمَن استطاع ان يسجل هدف التعادل في الوقت القاتل قبل أن يطلق الحكم صافرة نهاية المباراة.


 

 

وأبعد من حسابات الربح والخسارة لدى المعنيين، وأبعد من الانقسام حول حدود الخط البحري المُستحَق، يبدو لبنان أمام لحظة تحول استراتيجي ستنقله الى مصاف الدول النفطية، والأهم انه استطاع عبر اتفاق ترعاه واشنطن ان ينتزع اعترافاً بهذا الانتقال بعد استعصاءٍ دام سنوات طويلة نتيجة عدم وجود قرار بالسماح له بالدخول الى نادي مُنتجي الغاز والنفط.

وبناء عليه، فإنّ إبرام اتفاق الترسيم البحري يعني انّ الفيتو على الدور الاقتصادي الجديد للبنان قد سقط من حيث المبدأ، وإن كان هناك من يعتبر انّ تثبيت هذا الدور وتَسييله يحتاجان إلى جهد إضافي في المرحلة المقبلة، وربما الى معارك سياسية ودبلوماسية أخرى.


 

 

وضمن هذا السياق، يلفت المتحمّسون للاتفاق الى انه يعكس اتجاها أميركيا نحو رفع، او أقله، تخفيف الحصار المضروب منذ بداية عهد عون على لبنان، وهذا ما عكسه إصرار واشنطن عبر الموفد الأميركي عاموس هوكشتاين على صنع الاتفاق وإنقاذه، بعدما كان هناك قرار بتحطيم البلد على رأس عون و»حزب الله».

 

 

وبهذا المعنى، يأتي اكتمال حياكة خيوط الترسيم ليوقِف الانحدار الى قعر الهاوية ويطلق بدايات رحلة طويلة للخروج منها على نحو متدرّج، من دون تجاهل الظروف التي ساهمت في انضاج الانجاز وهي: الحرب الروسية الاوكرانية التي بدّلت الاولويات الدولية وعزّزت الحاجة إلى مصادر جديدة للطاقة، رسائل «حزب الله» الجدية وتلويحه باستخدام القوة لمنع اسرائيل من الاستخراج اذا لم يسمح للبنان بذلك أيضا، الموقف الرسمي الذي كان موحدا بقيادة عون وبالتنسيق مع الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي في ظاهرة غير مألوفة على مستوى العلاقة بين الرؤساء، وخشية الولايات المتحدة من وصول بنيامين نتنياهو الى السلطة في الكيان الاسرائيلي.


 

 

هذه العوامل، مع التفاوت بين أوزانها، أفضَت إلى ولادة اتفاق الترسيم الذي سيمنح لبنان فرصة جديدة للنهوض، ما يتطلّب في رأي البعض تغييراً في سلوك الطبقة السياسية لالتقاط تلك الفرصة، ما دام تغيير الطبقة في حد ذاتها متعذّراً كما تبين من الانتخابات النيابية الاخيرة.

 

 

وعلى مستوى الآثار المباشرة للترسيم البحري، يوضح الخبراء انه سيؤدي تلقائياً وقبل بدء الاستخراج الذي قد يتطلب بضع سنوات، الى تحسّن في التصنيف الاقتصادي للبنان الذي ستتبدّل النظرة اليه من دولة مفلسة الى مالكة لموارد طبيعية تنطوي على قيمة عالية، الأمر الذي سيساهم في ترميم الثقة في البلد وفتح أبواب جديدة امامه.

 

 

وكان من المفترض، وفق الخبراء، أن تُفضي ولادة اتفاق الترسيم الى انخفاض في سعر الدولار، وهذا ما لم يحصل بعد، على رغم انّ نحو 35 مليون دولار عُرضت للبيع في السوق مقابل تراجع الطلب بالترافق مع الإعلان عن التفاهم على الترسيم.

 

 

ويربط العارفون هذه المفارقة بتدخلات المضاربين الذين لا يزالون يحولون دون تخفيض سعر العملة الخضراء للاستمرار في تحقيق مكاسب غير مشروعة.