أكثر من أي يوم مضى، يريد الأميركيون والأوروبيون إنجاز الاتفاق على ترسيم الحدود وتقاسم الغاز بين لبنان وإسرائيل. لذلك، لا يُستبعَد الإعلان عن خرقٍ مفاجئ في المفاوضات. ولكن، هناك طرفان قويّان يجب أن يرضيهما الاتفاق: إسرائيل و»حزب الله».

كما كان مرجَّحاً، أرجأ الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين زيارته التي كانت مقرَّرة في الأسبوع الأخير من آب. ويتردّد أنّ الزيارة محتملة في الثلث الأول من أيلول الجاري. ولكن، واقعياً، لن يقوم هوكشتاين بمحاولة جديدة بين لبنان وإسرائيل ما لم تدخل على اللعبة معطيات جديدة تسهِّل التسوية.

 

وفي الساعات الأخيرة، تحدَّث الإعلام الإسرائيلي عن زيارة سيقوم بها هوكشتاين لباريس، يلتقي خلالها مسؤولي شركة «توتال» التي تمتلك حقوق التنقيب في بلوكات الغاز اللبنانية. وإذا كان ذلك صحيحاً، فهو يؤشّر إلى أنّ المفاوضات- في الجانب التقني- بلغت مرحلة متقدّمة تتعلق بإدارة الموارد الغازية على جانبي الحدود.

 

وهناك حاجة فرنسية مُلحَّة جداً لإنجاز الاتفاق حول الغاز في المتوسط. فالأوروبيون دخلوا الشتاء البارد وسط مخاوف من تقنين شديد في واردات الغاز الروسي أو حتى انقطاع، بعدما أصبح هذا الغاز ورقة مقايضة ثقيلة مع أوروبا في الملف الأوكراني.

 

بل إنّ الأمر بات يتعلق بالأمن الاجتماعي والسياسي، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا، حيث يُخشى أن يؤدي تضاعف فاتورة الكهرباء والتدفئة قرابة 10 مرّات، إلى إنطلاق حراكات شعبية في الشوارع، تعيد إلى الأذهان مرحلة «السترات الصفر» وما خلّفته من إرباك لحكومة ماكرون.

 

لذلك، يريد الفرنسيون، والأوروبيون عموماً، أن يتمّ الاتفاق سريعاً بين لبنان وإسرائيل، ما يفتح الباب لمزيد من تدفقات الغاز المتوسطية إلى أوروبا. وهذا ما تريده واشنطن أيضاً لتعطيل ورقة الضغط الروسية على حلفائها في الأطلسي، وانتزاع أي ذريعة تبطئ حماسهم للمواجهة مع روسيا.

 

لكن العامل الحاسم في أي تسوية حول الحدود وتقاسم الغاز على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية ليس مصالح الأوروبيين، بل مصالح القوى المعنية مباشرة بالاتفاق، أي إسرائيل ولبنان، ومن خلاله «حزب الله».

 

واللافت أنّ باريس التي تبدي حرصاً شديداً على علاقات طيبة مع «حزب الله» وتريده شريكاً فاعلاً في أي تسوية في لبنان، رفعت في الأيام الأخيرة من مستوى تعاطيها مع إيران، إذ كلّفتها القيام بوساطة مع موسكو حول أوكرانيا وصادراتها من الغاز إلى أوروبا. وبالتأكيد، ستتقاضى طهران ثمن هذه المهمَّة.


 

الوساطة الإيرانية ترجمها وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان بزيارة موسكو. ومن خلال الموقف الفرنسي، يبعث الأوروبيون برسالة إلى طهران مفادها أنّهم لا يشاركون واشنطن تشدُّدَها في بعض نقاط الملف النووي، كما يتمايزون عنها في ملفات إقليمية عدّة، ومنها العراق ولبنان.

 

حتى الآن، لم يصل إلى لبنان جوابٌ إسرائيلي على الطرح الذي تسلّمه هوكشتاين في زيارته الأخيرة لبيروت، وخلاصته أن يكون حقل «كاريش» لإسرائيل، في مقابل اعتماد الخط 23 بكامله للترسيم، وامتلاك لبنان وحده حقل «قانا» كاملاً، من دون أن يكون لإسرائيل أي حقّ في مخزوناته من الغاز.

 

ولكن، في الإعلام الإسرائيلي تسريبات كثيرة حول طبيعة الردّ على الطرح اللبناني، ويظهر فيها أنّ إسرائيل توافق على الخطوط العريضة، وأنّها تستعجل الاتفاق أيضاً للاستفادة من الظرف الأوروبي الصعب، لكنها تطالب بحصّة من الغاز المخزون في «قانا»، وتقترح أن يجري تعويضها بالمال عندما يقوم لبنان بالاستخراج.

 

هذا الأمر يعتبره لبنان التفافاً على حقّه الكامل في «قانا»، ومحاولةً للانزلاق بالمفاوضات إلى التطبيع الاقتصادي، خصوصاً أنّ الإسرائيليين يقترحون تكليف شركة أميركية إدارة الموارد وتوزيعها في منطقة الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.

 

عملياً، الإسرائيليون مضطرون إلى تجميد أعمال التنقيب التي خطّطوا للمباشرة بها في «كاريش»، خلال الأيام القليلة المقبلة، بواسطة المنصّة التابعة لشركة «إينرجين». ففي ظلّ التهديدات الجدّية التي أطلقها «حزب الله»، تصبح أي مغامرة إسرائيلية محفوفة بمخاطر جسيمة.

 

ولكن، تقتضي مصلحة إسرائيل بدء التنقيب من «كاريش» في شكل آمن، في لحظة الحاجة الأوروبية القصوى. وهذا يفترض أن تكون هناك حدود زمنية لـ»الدلع» الإسرائيلي. وهذا ما يدركه المفاوض اللبناني الذي لن يقبل بخفض السقف في المفاوضات، وكذلك «حزب الله» الذي لن يسمح بتوقيع اتفاق إذا لم يكن فيه المفاوض الحقيقي وصاحب القرار الأول.

 

وعلى الأرجح، باتت مفاوضات الترسيم تدور أكثر فأكثر في مناخ المفاوضات حول ملف إيران النووي. فهناك أيضاً يبذل الأوروبيون كل جهدٍ لإنجاح التسوية، فيما ينشط الإسرائيليون على الخط الأميركي للعرقلة أو للتشدّد إلى الحدِّ الأقصى.

 

ويبدو أنّ الاتفاق في فيينا، والاتفاق في الناقورة، على وشك أن يصبحا جاهزين تقنياً، ولا ينقصهما إلّا اتخاذ القرار السياسي بالحسم. والأصحّ أن اتفاق الناقورة ينتظر اتفاق فيينا.

 

وفي الحالين، الأوروبيون مستعجلون، الأميركيون والإيرانيون مستعدون للتسهيل، لكن إسرائيل ترفع سقف المكاسب وتعطِّل. ولذلك، ستشهد المرحلة ضغوطاً متزايدة لإنجاز اتفاق، في فيينا كما في الناقورة. فهل ينتصر معسكر التوقيع أم معسكر التعطيل، هنا وهناك؟