في مسار الانهيار اللبناني المستمر، هناك إشارات تدفع إلى التساؤل: هل إنّ هذا الانهيار مخطّط له أو يلقى تشجيعاً خارجياً، ويُنفَّذ بأيدٍ وأدواتٍ داخلية؟

ما يدفع إلى هذا التساؤل هو أنّ القوى السياسية الداخلية لم تقم حتى الآن، ولا تريد أن تقوم بأي حراكٍ حقيقي للإنقاذ، علماً أنّ هناك خطوات بسيطة يمكن أن تؤدي سريعاً إلى وقف الانهيار واستعادة مسار النهوض.

 

الأمر يتعلق طبعاً بالمرحلة التي شهدت انفجار الأزمة، أي منذ صيف 2019، ولكن خصوصاً بسنوات عديدة أو بعشرات السنين قبل ذلك، عندما كان يتمّ التأسيس للانهيار بممارسات الفساد التي لا ضوابط لها، والتي من خلالها تمّ نهب الدولة وإفراغها من الداخل لتصبح هيكلاً كرتونياً سقط بنفحة ريح، وفي شكل مفاجئ.


 

هذا الفساد كان يستثير المراقبين دائماً، فيسألون: هذه الطبقة السياسية التي أمعنت في الفساد لماذا بقيت القوى الدولية على علاقة بها، وكيف باركت وجودها في السلطة، بل كيف منحتها الأموال على سبيل الاستدانة، وقد بلغت عشرات المليارات، ولماذا بقي البنك الدولي مثلاً، وسائر المؤسسات الدولية المانحة، تموّل الفساد بلا حساب ولا مراجعة؟ ولماذا لم تكن تدقِّق في التلزيمات التي كانت تموّلها، مع علمها الأكيد بتجاوزات فادحة تعتريها؟


 

ثمة مَن يقول، من ذلك الحين، إنّ الفساد اللبناني العتيق من عمر لبنان الكبير والاستقلال، وما قبلهما، بقي متروكاً دولياً، بل لقي تشجيعاً منذ مطلع السبعينات من القرن الفائت، تحضيراً لتفجير الحرب الأهلية. وفي ذلك الحين، كان مطلوباً استثمار الجانب السياسي والأمني من الفساد اللبناني.

ذلك الفساد أوقع لبنان في مسار انهيار كارثي، إذ وصل بالبلد إلى حدود التفتيت أو التقسيم أو التقاسم، وأتاح الوقوع تحت الاحتلالات والوصايات الخارجية. ويمكن القول إنّ حرب العام 1975 التي «خلخلت» البلد لم تنتهِ حتى اليوم، على رغم مرور فترات من «الازدهار» الشكلي والمزيّف خلال هذه الفترة.


 

وما يجري في السنوات الثلاث الأخيرة هو الدخول في مرحلة جديدة من الحرب إيّاها أو الانهيار إيّاه أو ربما الاحتلالات والوصايات إيّاها. والأدوات التي يتمّ استخدامها في الفصل الحالي من الانهيار هي المال والاقتصاد والإدارة.

ربما تكون هذه المرحلة أشدّ خطراً على البلد من المراحل السابقة، لأنّها تزعزع الأركان الأخيرة في هيكل الدولة وتهدّد الكيان، بعدما تعرَّض لتشققات لم تُعالج على مدى عقود. ولذلك، يُخشى أن يقود الفصل الحالي من الانهيار إلى ما هو أخطر.

 

هناك مقولة لطالما تردّدت في أوساط الباحثين، ومفادها أنّ الفساد في لبنان ليس «فساداً عادياً»، تنتهي مفاعيله على مستوى طبقة سياسية اعتادت الاستفادة من موارد الدولة لبناء ثروات غير مشروعة بطرق غير مشروعة، بل إنّه فسادٌ منظَّم يجري غضّ النظر عنه، بل هو مطلوب ربما، ويلقى تشجيعاً إقليمياً ودولياً.


 

ولطالما تردّد أنّ مليارات الدولارات التي استدانها طاقم السلطة في لبنان، على مدى عشرات السنين، وخصوصاً بعد الطائف، كان مطلوباً منها إغراق البلد في ديون يستحيل الخروج منها تحت وطأة النظام الفاسد. وحينذاك، سيصبح سهلاً فرض الخيارات على البلد الضعيف.

أصحاب هذه المقولة جرى اتهامهم أحياناً بأنّهم «من جماعة نظرية المؤامرة»، أو أنّهم يريدون التشويش والتعطيل لا أكثر. ولكن، عملياً، وصل لبنان اليوم إلى الكارثة التي تمّ التحذير منها: انهيار مالي ونقدي واقتصادي مريع، وشلل في المؤسسات العامة كلها، بما في ذلك قطاع التربية والتعليم، وإرباك في السلطة التشريعية وفراغ يُنتظر أن يكتمل قريباً في السلطة التنفيذية.

 

وفي الموازاة، يفاوض لبنان في الملف الأخطر: سيادته على الحدود البحرية وثرواته الطبيعية من الغاز والنفط ومسائل النازحين، وفيما يعيش اللبنانيون في مستوى من الفقر بات الأدنى في العالم، حيث يُقارن بالصومال مثلاً، يُمنَع حتى من استجرار الغاز والكهرباء من أجل التخفيف من حدّة الأزمة، ولو بشكل طفيف، لأنّ المطلوب على الأرجح هو انخراطه في التسويات كلها دفعة واحدة.

البلد اليوم بلا حكومة فاعلة، وهو يقترب من مأزق في موقع رئاسة الجمهورية سينعكس فوضى سياسية ودستورية وإدارية لا سابق بها حتى في الحرب الأهلية. ولا أحد يستطيع تصوُّر العواقب المنتظرة بعد 31 تشرين الأول المقبل، في ظل تعثر انتخاب رئيس جديد للجمهورية وانفجار الانقسامات على مداها سياسياً وطائفياً ومذهبياً.

 

والأنكى أنّ كل هذه المخاطر، الواضحة للجميع، لم تدفع أحداً إلى إيجاد تسوية في مسألتي تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس للجمهورية. كما أنّ الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي لم يدفع أحداً، منذ 3 سنوات على الأقل إلى اتخاذ خطوات إنقاذية، مع أنّها كانت سهلة في العام 2019 وما قبله، وهي تصبح أشدّ صعوبة وأفدح كلفة يوماً بعد يوم.

 

واللافت أنّ القوى الدولية والعربية التي كانت عرّابة للتسويات في لبنان، تنشغل اليوم بأزمات أخرى ملتهبة، كالحرب في أوكرانيا أو الملف النووي الإيراني، ولا تعير الوضع اللبناني اهتماماً كافياً. وهذا الأمر سيجعل الفراغ اللبناني أكثر خطراً، وسيترك البلد ضحية لمزيد من الانهيارات المالية والنقدية والسياسية والدستورية، فيما هو يحتاج إلى حلحلة تبدأ في مكان ما.

 

هل نضجت فعلاً مؤامرة انهيار لبنان في شكل كامل وشامل، وآن الأوان ليرضخ للتسويات المدبَّرة؟ وماذا تفعل الطبقة السياسية لتجنّب هذا المأزق أو لمواجهته؟