شهدت قضية سلمان رشدي تعرّجاتٍ عديدة في أوروبا، وذلك بعد صدور روايته الشهيرة "آيات شيطانية"، وإصدار الإمام الراحل روح الله الخميني فتوى قضت بهدر دمه، مع تخصيص جائزة سنيّة لمن يتطوع لقتله، وبسبب هذه الفتوى حظيَ سلمان رشدي بتعاطفٍ اوروبي إعلامي وسياسي، في تسعينيات القرن الماضي، مع حملة تضامنٍ واستنكارٍ لهدر دمه، وإعادة ضخّ كافة الطروحات التي تدعو إلى حماية حريات التعبير والفكر والإبداع، لذا وجّه له "برنار بيفو" تحية خاصة في برنامجه المشهور "bouillon de culture"، شادّاً من عضُده في محنته القاسية، مُثنياً على شجاعته وصموده، كما استضافه "جان ماري كافادا" في برنامجه الشهير " مسار القرن"، وبدا رشدي من خلال الصورة صامداً، مُتماسك الأعصاب، يتحمل برباطة جأش مسؤولية تلك المحنة الشخصية كما وصفه محمد أركون في كتابه" الإسلام، أوروبا، الغرب".

 


في حين كان رشدي يحصد الإنتصارات ويحظى بكافة أنواع الدعم والتضامن، ويجني الأرباح( سواء منها المعنوية والمادية )، كان محمد أركون( الباحث الأكاديمي وأستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة السوربون)، يحصد الإتهامات والتجريح والتّقريع من مؤسسات إعلامية وشخصيات ثقافية وجهات حزبية وسياسية عديدة، حتى وصل الأمر إلى التهديدات، والتي لِحُسن الحظ لم تصل إلى حدود التهديدات الجسدية، ذلك أنّ أركون لم يشأ ولم يقتنع بركوب موجة الدعم الأهوج لحرية الفكر، وحرية الكاتب في تناول ما يحلو له تناوله، تحت شعار حرية الفكر والمُعتقد، فكتب أركون في جريدة "اللوموند" الفرنسية بتاريخ 15 آذار 1989 يقول: أرفض تلك الفكرة المُسبقة، السّهلة والإختزالية، التي تقول: يحقّ لأيُ كاتبٍ أن يكتب ما يشاء، وإذ خالف أركون جوقة الدعم التي لا نظير لها في أوروبا لسلمان رشدي، لم يُفهم كلامه على حقيقته كما يقول، وصُنّفَ في خانة التيار المُتزمّت، وأصبح محمد أركون أصوليّاً مُتطرّفاً، وفق ما نالهُ من تجريحات، وعلّق على ذلك بحسرةٍ وأسىً: أنا الذي انخرطّتُ منذ ثلاثين سنة في أكبر مشروع لنقد العقل الإسلامي، أصبحتُ خارج دائرة العلمنة والحداثة! وكُنتُ قد انخرطتُ في هذا المشروع لكي أوسع من دائرة التفكير، أو حرية التفكير والتعبير في الساحة الإسلامية، ولكي أجعل مُمكناً ازدهار الأعمال الفنية والأدبية والإبداعية الأكثر جرأة.

 


يوضح أركون موقفه من رشدي في هذه المقابلة مع اللوموند  فيتساءل: ماذا فعل سلمان رشدي بالضبط؟ لقد زعزع الرمزانية الدينية التي يتعلق بها ملايين المسلمين المُهمّشين والمسحوقين من قِبل تاريخٍ أعمى لا يرحم، ولو كان قد فعل ذلك في عملٍ من الخيال الفني أو الأدب الروائي، فإنّ ذلك لا يُغفرُ له.

 


في حمأة واحتدام قضية رشدي في أوروبا، لم يسمع أحدٌ في بلادنا، أو ينتبه لما تعرّض له أركون في أوروبا جرّاء قضية رشدي، حين وصفَ بمرارة ما سمّاهُ: محاكمتي وتحريمي ونبذي، من جانب بعض الجهات في الساحة الفرنسية، وقد نهضوا جميعاً ضدّ: هذا المسلم الأصولي الذي يسمح لنفسه بأن يعلن أنّه استاذ في السوربون، ويا للفضيحة! لقد تجاوز أركون حدوده، وفي حين كانوا يدعون إلى التسامح والرأفة مع رشدي، ألحوا على نبذ أركون وعدم التسامح معه بأي شكل من الأشكال، "لقد عِشتُ لمدة شهور طويلة بعد تلك الحادثة حالة المنبوذ"، ويستهجن أركون بعد ذلك حالة الفصام الفرنسية، حين يعاملون الفرنسي المتمتع بكامل حقوقه، ويعني بذلك الفرنسي الأصلي  في حين أنّ الفرنسي ذا الأصل الأجنبي مُطالبٌ دائماً بتقديم إمارات الولاء والطاعة والعرفان بالجميل، باختصار: إنّه مشبوه باستمرار،  وبخاصة اذا كان من أصل مسلم.

 


تكشف هذه المفارقة بين محنة رشدي ومحنة أركون، سخافة تعامل الغرب "الليبرالي" وتهافته مع قضايا المسلمين الحقّة، فقد بيّنت قضية سلمان رشدي مدى الضعف الفكري والانحراف الإيديولوجي لجهة إعطاء الدروس السهلة حول حرية الفكر والتعبير للعالم الإسلامي المُتخلف والهمجي في نظرهم،  لقد حضنوا رشدي دون تحليلٍ كافٍ وعميقٍ للتعقيدات والرهانات العميقة التي أثارها كتابه، وقاموا "بجَلْد" أركون، والعبارة هذه له، لكي يوهموا الآخرين كما يرى: بأنّه أدان رشدي بحجة " حماية القيم المقدسة للإسلام" كما ادّعى بعضهم، ويُصرّ أركون في هذا المجال على التأكيد بأنّ إدانة رشدي هي إدانة سياسية،  وليست دينية، أو أنّها تحاول أن ترفع مستواها السياسي إلى مرتبة الرهانات الدينية العالية.

 


تدفعنا اليوم حادثة الإعتداء على سلمان رشدي، لتوجيه تحية المجد والخلود للراحل الكبير محمد أركون  فقد كان صادقاً في معالجاته لقضايا نقد الفكر الديني، والإسهام الجاد في نهضة المُهمّشين والمسحوقين  وضحايا الظلامية الدينية والدنيوية على السواء.