لا يزال الشرق الاوسط يعيش على توقيت فيينا. فالمفاوضات الصعبة التي دارت انتجت شبه توافق على الملف النووي الايراني. لكن المشكلة هي في الاعلان عن هذا التفاهم والتوقيع عليه، وهذا له علاقة بالظروف اكثر من المضمون. صحيح انّ طهران تراهن على الواقع المحشور للرئيس الاميركي لتحقيق مكاسب اضافية في اللحظات الاخيرة، وانّ واشنطن بدورها تراهن على الوضع الاقتصادي الصعب في ايران للحدّ من «دلالها»، لكن الأهم هو ايجاد التوقيت الملائم للإعلان عن العودة إلى الاتفاق.

وخلال الايام القليلة الماضية أظهرت الأجواء المسرّبة من العاصمتين الاميركية والايرانية بأننا بتنا على قاب قوسين من التوقيع على الاتفاق، لدرجة انّ البعض استشف هذا الجو من الكلام الأخير لأمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، الشخصية غير الايرانية الأكثر قرباً على الاطلاق من مرشد الثورة علي خامنئي. لكن ثمة مشكلة تتعلق باسرائيل. فبعد وصول جو بايدن إلى البيت الابيض فشل بنيامين نتنياهو في البقاء في موقعه كرئيس للحكومة الاسرائيلية، وجاء مكانه نفتالي بينيت على رأس ائتلاف غريب عجيب ويحوز على اغلبية ضئيلة.

 

وبعكس نتنياهو الذي خاض معارضة شرسة للاتفاق ايام الرئيس الاميركي الأسبق باراك اوباما، والمشاكس لعودة المفاوضات الاميركية - الايرانية، فإنّ بينيت بدا اكثر مرونة مع طلب اميركي دائم بعدم شن حملات اعلامية ضد المفاوضات.


 

لكن حكومة الائتلاف الهجين سقطت وأعلن معها نفتالي بينيت خروجه من الحياة السياسية، ليحلّ مكانه في مهمة تسيير اعمال الحكومة يائير لابيد الذي يتحضّر لانتخابات صعبة. من الواضح انّ ادارة بايدن التي تحاذر التورط علناً في «المستنقع» السياسي الاسرائيلي، تفضّل قطع الطريق على عودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، ولذلك توفّر ادارة بايدن المساعدات التي هي قادرة عليها لتعزيز موقع لابيد الشعبي، وسط شكوى لابيد من وجود نية روسية وايرانية للتأثير انتخابياً ضدّه، وآخر طلبات لابيد تأجيل التوقيع على الاتفاق النووي إلى ما بعد موعد الانتخابات الاسرائيلية، كي لا تشكّل مادة انتخابية ممتازة لنتنياهو. وهنا يصح السؤال ايضًا عن ملف الترسيم البحري مع لبنان.


 

فعندما غادر المفاوض الاميركي بيروت بدت الأجواء تفاؤلية إلى درجة انّ النقاش الداخلي شهد تمسكاً بأن تجري «احتفالية» الاعلان عن الاتفاق في قصر بعبدا وليس في أي مكان آخر. لكن يبدو انّ الاعلان عن الاتفاق لا يتناسب مع التوقيت الانتخابي، أضف إلى ذلك التحولات الكبرى الدائرة في المنطقة والتي تشكّل اسرائيل محوراً لها.

ذلك انّ خط نقل الغاز، والذي كان جرى العمل عليه بين مصر واسرائيل فقبرص فاليونان، جرى وضعه جانباً بحجة كلفته المرتفعة، وحلّ مكانه خط آخر يربط مصر واسرائيل بتركيا وصولاً إلى اوروبا، وهذا ما يتماشى مع الاستدارة التي نفّذها الرئيس التركي اردوغان.


 

تكفي الإشارة إلى قرار العودة لتبادل السفراء بين انقرة وتل ابيب، واعتبار لابيد انّ استئناف العلاقات يشكّل ذخراً هاماً للاستقرار الاقليمي وبشرى اقتصادية هامة جداً بالنسبة لاسرائيل.

 

قبل ذلك كانت حكومة لابيد قد شنّت حملة عسكرية قصيرة دامت ثلاثة ايام ضدّ «الجهاد الاسلامي» الحليف الفلسطيني الاول لإيران. وجرى تصفية مسؤولين عسكريين كبار او اعتقال كوادر أساسية في الضفة الغربية.

 

يومها قرأ البعض في العملية اختباراً لمدى جدّية تركيا في علاقتها الجديدة مع اسرائيل. في الواقع بقيت حركة «حماس» التي تحظى بعلاقات جيدة مع تركيا وخارج اطار الصراع، ما اعتُبر إشارة تركية واضحة. لكن ثمة ما هو أبعد في الاهداف الفعلية للعملية الاسرائيلية. صحيح انّها ساهمت في تحسين شعبية يائير لابيد، لكن السؤال الاهم يطال ما حصل في الضفة الغربية اكثر مما حصل في غزة.


 

فالضربة القاسية تلقّاها «الجهاد الاسلامي» في الضفة الغربية، حيث كان يعمل بنشاط لتركيز بنيته التحتية. وهو ما يعني توسيع نفوذ ايران إلى الحدود الاردنية الغربية حيث السلطة الفلسطينية. والسؤال المطروح هنا هو، إذا كان هنالك من يخطط لشيء ما في الاردن، تطلب اهتمام ايران بهذه البقعة واستوجب العملية الاسرائيلية. وهل لما حدث علاقة بتطور مستقبلي في الاردن او ربما جنوب سوريا ولبنان؟

 

في المقابل، فإنّ الاردن الذي «خاب أمله» من زيارة ولي العهد السعودي، والذي لم يحمل معه اي مساعدات مالية يحتاجها الاقتصاد الاردني بشكل سريع، باشر بعملية تبريد علاقته مع ايران، وتراجع عن مطالبته بمنطقة امنية جنوب سوريا، لا بل فإنّه يبحث عن صيغة حوار مع ايران. مع التذكير بأنّ الاردن كان اول من حذّر من «الهلال الشعبي» والمتحمّس لتشكيل ناتو عربي مهمته مواجهة النفوذ الايراني.


 

اليوم تبدو الصورة وكأنّها تتبدّل مع برودة في العلاقات الاردنية - الخليجية والسعي لفتح قنوات التواصل مع ايران، ولو انّ هنالك من يضع الحركة الاردنية في إطار المناورة لإجبار دول الخليج على الالتفات إلى اقتصاده الصعب.

 

وسط هذه الصورة تستعر الخلافات اللبنانية حيال التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي.

 

في الواقع، فإنّ السؤال الأساس الذي يجب التمعن به هو حول الدور المقبل والوظيفة الاقليمية التي سيجري إيكالها الى لبنان. ومن هذه الزاوية يمكن عندها مقاربة الاستحقاق الرئاسي. ولا شك بأنّ معظم القوى الداخلية لا تحسب سوى في الإطار الضيّق الداخلي، باستثناء «حزب الله» الذي يركّز على كيفية «إسقاط» المستجدات الاقليمية عند حصولها على المشهد اللبناني.

 

في الواقع، عنوان واحد هو الذي يتقدّم على الاستحقاق الرئاسي، وهو كيفية التعاطي مع الفوضى المتصاعدة والمرشحة للحصول، ومن دون استبعاد احتمالات حصول توظيف لها بما يتلاءم مع الاتجاهات السياسية اللبنانية والاقليمية.

 

المشكلة انّ لبنان لا يملك ترف الوقت والانتظار وسط ازماته المعيشية الخانقة والخطرة. لكن اللعبة الاقليمية المتشابكة والتي تجمع ما بين المصالح الضخمة والتبدلات الحاصلة، تفرض الانتظار ولا تكترث للتفاصيل، ولبنان هو تفصيل في اللعبة الكبرى.

 

آخر استطلاعات الرأي في اسرائيل تُظهر تراجع اليمين بقيادة الليكود إلى 59 مقعداً مقابل 55 مقعداً للأحزاب التي تتشكّل منها الحكومة الحالية، و6 مقاعد للقائمة المشتركة. وهو ما يعني تقارباً قاتلاً يجعل اللعبة صعبة ويفتح الابواب امام المخاطر لتوظيفها انتخابياً. وآخر الاستطلاعات الاميركية تُظهر تحسن اوضاع الحزب الديموقراطي الحاكم في الانتخابات النصفية، والتي ستجري في الشهر نفسه الذي سيشهد الانتخابات الاسرائيلية. والتحسن الذي طرأ على وضع الحزب الديموقراطي جاء بعد تصفية زعيم القاعدة ايمن الظواهري وتحقيق انتصارات تشريعية اميركية وارتفاع ارقام نمو الوظائف. وحيث يركّز الحزب الديموقراطي على المجموعات اللاتينية والقادمين من آسيا وجزر المحيط الهادئ إضافة إلى شريحة النساء.

 

اما الاستحقاق الرئاسي اللبناني فهو يقع قبل موعد الاستحقاقين الاميركي والاسرائيلي، ما يستوجب الحذر لا الاندفاع في لعبة النار، حيث ابواب الجحيم مفتوحة.