لا شك أن حسن نصر الله بات يقيم في عالم آخر لا يشبه عالمنا، ويتملكه اقتناع شبه راسخ بأنه جاء الى الدنيا في "مهمة سماوية" لا يقوى عليها الا من يقارب "النبوة" في شكل أو في آخر... كل شيء تقريباً في مواقف نصر الله يحمل في طياته اشارة الى وجود قوة الهية تشد على يده وتسدد خطاه، وأنه لا يقدم على شيء ما لم يكن تلقى مسبقاً ايحاء سماوياً ووعداً بنصر الهي أكيد. وكل شيء تقريباً في مساره يوحي بأن الظروف، مهما تقلبت وتباينت وتغيرت، لا بد أن تصب في مصلحته حكماً، معتبراً أن ما يصيب العالم لا يصيب "حزب الله" ولا يؤثر في ايران، وأن الجمهورية الاسلامية ليست مجرد دولة كسائر الدول، بل "ثورة" اصلاحية لا بد أن تعم العالمين العربي والاسلامي أولاً والعالم الغربي ثانياً. وما يؤكد هذا الواقع، وفق المراقبين والمحللين والمتابعين، أن نصر الله، لا يرى في الحصار الذي تعانيه ايران أمراً خانقاً، ولا في التظاهرات المعادية للنظام أمراً خطيراً، ولا في نسبة الفقر المرتفعة وتدهور العملة الوطنية أمراً كارثياً، ولا في العزلة العالمية أمراً عصيباً، ولا في اللوائح السود ومسلسل العقوبات أمراً خطيراً، ولا في تساقط أركان "الحرس الثوري" في سوريا وايران أمراً غريباً، ولا يتوقف عند المراوحة الحوثية في اليمن، وعند التراجع الشيعي الموالي لطهران في بغداد، ولا عند وهن النظام في دمشق، ولا انكشاف قوافله العسكرية التي ترصدها اسرائيل من حين الى آخر. فالرجل يرفض أن يتمحص في الوجه الآخر للواقع، ويرفض أن يصدق أن الظروف التي يظن أنها ملائمة دائماً قد تنقلب عليه يوماً أو أنها على الأقل قابلة للسقوط، تماماً كما سقطت أمم ودول وأحزاب وتيارات وأنظمة وجيوش وميليشيات وقيادات، ومنها ما شهده لبنان في فترات متقطعة. والرجل يرفض أن يصدق أن لبنان ليس دولة الشعب الواحد أو الدين الواحد أو الحزب الواحد، معتبراً أن "حزب الله" هو الرسالة، وأنه شخصياً هو "المرسل"، وأن اللبنانيين هم الرعية، وأن "الثورة الاسلامية" هي "الكتاب" التوجيهي الصالح لكل الشعوب والظروف والأحوال. وما ساعد حسن نصر الله على الغرق في فكرة "النبوة" أنه مُطاع في كل أمر وكل قرار، وأن لا حل في لبنان يمكن أن ينجز من دونه، وأن لا مشكلة في لبنان يمكن أن تنتهي الا على طريقته، وأن لا سلاح يمكن أن يعلو على سلاحه، وأن لا جيش يمكن أن يطغى على جيشه، وأن لا طائفة يمكن أن تضاهي طائفته، وأن لا حزب يمكن أن يقارع حزبه، وأن أي دولة عادية أو عظمى يمكن أن تجرده من ترسانته، وأن أي مجموعات محلية يمكن أن تتجرأ عليه من قريب أو بعيد. وما ساعده على ذلك أيضاً، تركيزه على ما يملك من سلاح لا على ما يملكه الآخرون، وعلى الأضرار التي يلحقها بالعدو لا على الأضرار التي يمكن أن يتلقاها، وأن أحداً في لبنان لا يذهب في المساءلة بعيداً الى حد الاتهام المباشر، ولا يدهم معاقله بحثاً عن مطلوبين، ولا معامله بحثاً عن ممنوعات، ولا مخازنه بحثاً عن مهربين، معتبراً أنه وصل مع حزبه الى دولة غير معلنة يرأسها رئيس غير معلن، ويحرسها جيش غير معلن، و"يطوبها" مذهب غير معلن. وما ساعده على ذلك أيضاً وأيضاً، أنه تمكن من إقناع شريحة كبيرة من اللبنانيين وفي مقدمهم "التيار الوطني الحر"، بأنه الأصدق بين الحلفاء والأقوى بين الجيوش، والأوفى بين الأصدقاء، وأن بندقيته، لا بندقية الجيش هي التي تحمي الحدود والجرود والأعراض وكل شيء يتحرك في لبنان. هذا الأمر لم يمر من دون مقابل، اذ تمكن "حزب الله" من أن يحظى بغطاء مسيحي يعتد به، لا يطالب بتطبيق القرار ١٥٥٩، ولا باعتقال قتلة رفيق الحريري، ولا بلجم حملة "التشيع" في مناطق لبنانية واسعة، ولا بوضع حد لمحاولات تغيير وجه لبنان التعددي، ولا يسائله في موضوع التهريب والترهيب وتبييض الأموال ولا في موضوع ضرب العلاقات اللبنانية عربياً ودولياً، ولا في مصادرة قرار الحرب والسلم، ولا في عمليات التعدي والتصفيات، ولا في محاولات تكريس لبنان عضواً نهائياً في الهلال الايراني الممتد من طهران الى البحر المتوسط، ولا في محاولات جر لبنان الى حروب مع اسرائيل وأزمات مع دول عربية، ولا في محاولات ترسيم الحدود البحرية والبرية بالمقاييس التي يريدها والاحداثيات التي يختارها. ويقول عالم نفس غربي: ان كل حركة من حركات حسن نصر الله تؤكد أن ثقة الرجل بنفسه وخياراته، لم تعد ثقة رجل عادي، بل ثقة رجل يضخ صوب ناسه ومتابعيه إشارات شبه إلهية ووعوداً تتعدى قدرة الانسان العادي الى الانسان الاستثنائي. ويضيف هذا العالم: ان حسن نصر الله لم يعد ذاك السيد الذي أطل على السياسة شاباً في التاسعة والعشرين من عمره، بل تحول تدريجاً، وتحديداً بعد "حرب تموز" و"السابع من أيار"، الى "امام غير معلن" يقارع من حيث الهيبة أو يكاد الامام علي خامنئي، أو الى "فاتح" يتفوق على قاسم سليماني، أو الى رئيس "دويلة " تتفوق على ايران مالياً واقتصادياً وتجارياً ومصرفياً ومخابراتياً، وتملك قدرة على مقارعة اسرائيل وأميركا تفوق قدرة الحرس الثوري الايراني. ويذهب العالم النفسي في تحليله بعيداً الى حد القول: إن حسن نصر الله يعلن في العلن ولاءه لولاية الفقيه، لكنه في كواليسه ينظر الى نفسه على أنه صاحب الفضل في نصرة الشيعة في العالم، هو الذي يدعمهم بالسلاح والرجال في سوريا والعراق واليمن والبحرين ومناطق عدة في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. والواقع أن كل ما تقدم صحيح ولا يقبل الكثير من الجدل، فالرجل هو معظم ذلك، سواء في لبنان أو في الاستراتيجية الايرانية والعقائدية الواسعة، واللاعب الوحيد الذي لا يلقى منافساً واحداً لا في طائفة ولا في حزب أو تيار، والمحارب الوحيد الذي يقاتل الجميع ولا يقاتله أحد سواء عجزاً أو خوفاً. لكن ما لم يتنبه له حسن نصر الله، هو أن ما يجوز في لبنان الصغير والمفكك لا يجوز في البيئة الأوسع، وأن كثراً من "الثوار" الذين تلمسوا طريق "النبوة" من قبل، سقطوا اما بقرار دولي واما بقرار صادر من أهل البيت نفسه عندما يجدون مصلحة في التخلي عن سلاحهم أو عندما يجدون فيه دوراً يتعدى الولاء المطلق الى التفرد أو التمرد. صحيح أن حسن نصر الله لم يتجاوز مصالح ايران وأئمتها، ولم يفتح على حسابه، لكن هذا لا يعني أن حجم الرجل كبر الى الحد الذي باتت ايران نفسها في حاجة اليه عندما تغلق أمامها الأبواب الديبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والمالية وسواها، وباتت في حاجة أيضاً الى التخلي عنه عندما ترى أنه بات أقل وزناً من المصلحة العليا، خصوصاً إذا تحول الى عبء في مكان وخطر في مكان آخر. ألم يكن هذا مصير قاسم سليماني الذي قضى في عملية دقيقة لا تخلو حسب المراقبين من عملاء أو مسؤولين أرادوا تحييده بعدما تحول الى الرجل الثاني لا بل الأكثر نفوذاً داخل التركيبة الايرانية؟ وألم يكن هذا مصير أبو مصعب الزرقاوي في العراق وأسامة بن لادن في باكستان وأبو بكر البغدادي في سوريا وأيمن الظواهري في أفغانستان وتيسير الجعبري وخالد منصور في غزة وسواهم من الذين لا تخلو عمليات تصفيتهم من دسائس من هنا ورشاوى من هناك، والذين تعاملوا مع الأحداث والحروب التي خاضوها وكأنهم رسل أو وكلاء سماويون؟ وعلى الرغم من الفارق بين أداء حسن نصر الله وأداء هؤلاء، فإن مصالح الكبار لا تتقن التمييز ولا تستحضر المبررات عندما يتعلق الأمر بما هو أكثر من مجرد تنافس مضبوط أو مغامرة مدروسة أو محدودة في المكان والزمان، وهو أمر يعرفه "حزب الله" جيداً من خلال عمليات تصفية كان أبرزها اغتيال رفيق الحريري. لقد أخطأ حسن نصر الله عندما تحدث عن وكالات الهية، وربما يكون ما فعله الخطأ الأسوأ في مسيرته السياسية، اذ أن ايران نفسها لن تهضم من يتجاوز هيبة خامنئي سواء قصداً أو عفواً، وأن العالم السني لن يبايع أي حيثية شيعية موالية لايران أكثر من ولائها للتعايش الشيعي - السني الآمن، وأن العالم الغربي لن يسلم بـ "نبوة" أحد هو الذي بالكاد يؤمن بوجود الله والرسل والأنبياء سواء على الأرض أو في السماء. لقد قال حسن نصر الله ما قاله سواء عن تهور أو اقتناع، ويبقى ألا يضطر يوماً الى الوقوف أمام الناس مردداً مرة ثانية: لو كنت أعلم، او ان يقف انصاره يوما مرددين :ليته كان يعلم انطوني جعجع لبنان الكبير