هل تعلم يا سماحة السيد نصرالله بأنّكم، عندما تُصرحون و"تعتقدون" بأنّ تصرفاتكم وسلوكياتكم إنّما هي تكليفٌ من الله تعالى، إنّما تنتسبون صراحةً وعلانيةً لنهج الأمويين وعقيدتهم، التي تقوم على عقيدة "الجبر" الإلهي، وذلك لتبرير مظالمهم واغتصابهم للسلطة، بعد أن كان قد مهد لهذه العقيدة الفاسدة والمستنكرة من قِبل كافة الفرق الإسلامية( وفي مقدمها أهل السنّة والجماعة) الجهم بن صفوان( ويدعى اتباعه بالجهمية)، الذي عدّه الشهرستاني من الجبرية "الخالصة" لقوله في القدرة الحادثة: إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالإستطاعة، وإنّما هو مجبورٌ في أفعاله، لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار، وإنّما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتُنسبُ إليه الأفعال مجازاً كما تُنسب للجمادات، كما يُقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وتغيمت السماء وأمطرت، واهتزت الأرض وأنبتت، إلى غير ذلك، والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال كلها جبر، وقال:" اذا ثبُت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً، ويستدرك الجهم فيُفسر قدرة الإنسان على الفعل، بقوله: إنّ الله تعالى خلق للإنسان قوةً كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختياراً له منفرداً بذلك، كما خلق له طولاً كان به طويلاً، ولوناً كان به مُتلوّناً. وهل تعلم يا سماحة السيد أنّه في خضم الصراعات السياسية والاجتماعية والعقيدية( وما رافقها من حروبٍ ودماءٍ مسفوكة) في بواكير الإسلام، لم يكن أحدٌ يدعو إلى حقٍّ إلهيٍّ في السلطة، أو التشكيك في أهمية "العقد" كشرطٍ للحُكم، أو التشكيك في مفهوم "الولاية" كأساسٍ للسلطة، ويتضمن حقّ الجماعة في المراقبة والمحاسبة، بل وفي خضم تلك الصراعات برز وعيٌ شامل بضرورة الحفاظ على سلطةٍ تُحدث قطيعةً مع النظامين الساساني والبيزنطي المُطاح بهما، وهما يقومان على أساس نظرية الحقّ الإلهي، هذا الوعي برز طيلة احتكاك المسلمين بالتجربة السياسية للخلافة الراشدة، كما برز بشكلٍ واضح عند محاولة والي الشام معاوية بن أبي سفيان الخروج عن خطّ تلك السياسة، فواجهَهُ عبدالرحمن بن أبي بكر قائلاً: ولكنكم تريدون أن تجعلوها "هرقلية"، كلما مات هرقل، قام هرقل! وهكذا بدأت بعض المفاهيم السياسية تتولد في مقابل المفاهيم الكسروية والبيزنطية، فمُقابل التراتب الطبقي الفئوي، نشأت مفاهيم الأمّة والشورى والعَقد والبيعة والولاية، ومعلومٌ أنّ مثل هذه المفاهيم الجديدة لا يمكن أن تتوضح وتتحدد إلا بفضل تجارب سياسية فاشلة أو ناجحة، وسوف تقوم الفرق الكلامية الإسلامية، كفِرق سياسية بمهمة تحديد تلك المصطلحات الجينية. غير أنّ وصول معاوية بن أبي سفيان إلى سدّة الخلافة، قلبَ موازين القوى، وحاول للإستئثار بالحكم الإنقلاب على ما كان المسلمون قد أقرّوه كسوابق دستورية، من بيعة وعقد وشورى، فركّب لأجل تحقيق ذلك، قضية المطالبة بدم الخليفة المقتول عثمان بن عفان، ممّا جرّ المآسي والحروب على الأمة الإسلامية جمعاء، من حرب صفين، إلى حروب علي بن أبي طالب مع الخوارج، إلى ثورات العراقيين ضد الولاة المستبدين الذين بعثهم الأمويون إلى العراق، إلى استباحة مكة والمدينة وقصف الكعبة بالمنجنيق، على يد الحجاج بن يوسف الثقفي( مدفعية تلك الأيام)، إلى مأساة كربلاء، وقتل الحسين بن علي بن أبي طالب وصحبه، وسبي نسائه، وحملهم على أحقاب الإبل إلى الشام. وها أنتم تحيون اليوم ذكراه بفائض القوة والصخب والضجيج، بعيداً جدّاً عن مرامي وأهداف خروجه على يزيد بن معاوية، وها أنتم تراكمون الخطأ فوق الخطأ، عن وعيٍ أو بدونه، لا فرق، فحبذا لو تبدأون بالعودة عن الخطأ، ففي ذلك فضلٌ لا يُنكره أحد، وفي مقدمة ذلك، مقولة التكليف الإلهي التي "اختصّكم" بها الله تعالى وحدكم، وسلامٌ على المُتّقين.