يحل الرابع من آب هذا العام وكأن جريمة تفجير مرفأ بيروت وقعت قبل قرن وليس في عهد هذه السلطة ومن يتحكم بها، ويحق لأهالي الشهداء أن يغضبوا وأن يعبروا بكل أساليب السخط الممكنة عما آلت إليه التحقيقات القضائية في هذا الملف الذي يصل إلى مستوى المأساة الوطنية الكبرى. وفي حين ترافقت الذكرى الثانية لهذه الجريمة مع تهويل بشأن انهيار الصوامع الشمالية من الاهراءات التي تركت لمصيرها منذ عامين ، وصولاً إلى انهيار الجزء الشمالي منها، يستمر اهل السلطة في نسف أي مساعٍ للتقدم في التحقيق. وآخر فصول النسف عكسته مهزلة تعيين أعضاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وفق مبدأ المحاصصة والتوزيع الطائفي، ومن دون احترام أدنى المعايير المتعلقة بروحية القانون والقضاء. من الواضح أن سياسة وئد الجرائم والتصرف وكأن لا علاقة للطبقة السياسية بالواقع اللبناني الغارق في حال من الموت السريري ، ولا حضور لهذه السلطة وللدولة وإدارتها، إلا من حيث العناوين الكبيرة الخاوية والخالية من أي مفعول. لقد وصلت التحقيقات في قضية إنفجار المرفأ إلى مراحل محددة من البحث والتقصي عن الحقيقة التي ينتظرها اللبنانيون جميعاً. إلا أنها، بطبيعة الحال، لم تصل إلى خواتيمها النهائية التي يمكن من خلال توفير الفهم الكامل للرأي العام ولعائلات الضحايا الأبرياء عما حصل فعلاً، والتوصل لمن هو مسؤول بالفعل عن ما حصل . الخلاصة الأساسيّة، سواءً أكان في ملف مرفأ بيروت أم في أي ملف قضائي آخر، ان منع قيام السلطة القضائيّة المستقلة في لبنان يعني عمليّاً تأخير مشروع قيام الدولة إلى أجل غير مسمّى. لا يمكن إنتظار قيام الدولة من دون إقرار القوانين والتشريعات التي تتيح قيام سلطة قضائيّة مستقلة . السلطة القضائيّة المستقلة هي المؤسسة التي لا تتأثر قراراتها بأية اعتبارات خارج دائرة الدستور والقوانين المرعيّة الإجراء، كما لا تتأثر قراراتها بأية تدخلات سياسيّة مباشرة أم غير مباشرة. والخطوة الأولى المطلوبة في هذا الاطار هي «تحرير» الجسم القضائي من عقدة المناقلات والتعيينات والتشكيلات والترفيعات كي لا يبقى القضاة بمثابة رهائن لدى السلطة السياسيّة بمختلف رموزها وقواها وتلاوينها . أن يمتنع رئيس الجمهوريّة، على سبيل المثال، عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائيّة لسنواتٍ طويلة، وهو المؤتمن على حماية الدستور وتطبيق القوانين؛ إنما يعكس جانباً أساسيّاً من الأساليب المعتمدة مع القضاء. وأن يعجز التفتيش القضائي عن تطبيق الأنظمة بحق القضاة المخالفين مسلكيّاً وقانونيّاً مفسحاً المجال أمام مواصلة البعض منهم خطواتٍ لا تصب في حقيقة الأمر في صلب العمل القضائي بقدر ما تعكس خطواتٍ كيديّة إنتقاميّة لا تمت إلى سلوكيّات وأصول العمل القضائي الملتزم والرصين بصلة؛ فذلك له تداعياته ايضاً . فمعايير الدولة -- الوطن، لا ترتبط بالفجيعة التي خلفتها الجريمة قبل عامين، ولا ترتبط، أيضاً، بقطع العلاقة مع النمو والتطور والأمن والأمان والاستقرار إلى أجل غير مسمى . أمام لبنان الكثير من المشاكل المتراكمة في مختلف المجالات والقطاعات لدرجة أن البعض منها يبدو وكأنه يستعصي على الحل. ولكن، على الرغم من فداحة المشاكل وعمقها وتعقيداتها، إلا أن المسألة القضائية تبدو الأكثر أهمية لأن إصلاحها يترك آثاره على مختلف المجالات الأخرى، ويتيح لسائر الملفات أن تنتظم تدريجيا بما يتلاءم مع القوانين والتشريعات السارية المفعول . القضاء أيضاً مدعو لأن يترّفع عن السلوكيّات التي من شأنها أن تؤثر على إستقلاليته وعلى سمعته وعلى هيبته. ختاماً بات من الواجب على هذا الشعب أن يستفيق من كبوته ويبحث عن وسائل استعادة الوطن المفقود ليس عبر صورة العلم للتعريف عنه، وليس عبر احتجاجات عقيمة أو تنفيس غضب بتشخيص العلة وتجهيل الاسباب، لأن المطلوب مواجهة إسقاط 4 آب عمداً إلى حيث يريدون له أن يسقط تماماً كما أسقطت الجرائم والفظائع التي ارتكبت ولا تزال ترتكب، ولا مكان لها في اولوياتهم فحذار من الوصول إلى هناك ، حتى لا نسمح بدخول جريمة المرفأ مسار التعطيل والتضليل، كما سابقاتها من جرائم التفجير والإغتيالات الكبرى، التي أصبحت جزءًا من أرشيف التاريخ المنسي . تحية وطنية ووجدانية لأرواح الشهداء الذين سقطوا نتيجة الإنفجار الزلزالي، وكل العزاء للأهالي الذين بدأ اليأس من العدالة يتسرب إلى نفوس العديد منهم .