قرأته.. كما قرأت فكره ودم الحسين باكراً، فكانت الرواية خيط فجرٍ من ثوب صلاة، ورواية "مولانا" فكانت لحظة استيداعٍ لجن اللحن من القول، وتشافيتُ مع فكره وقلمه وحوارته، فكانت جرس إنذارٍ يوقظ النائمين في جحيم جنَّاتهم، وباقي الروايات التي كتبها فكانت مغناطيساً يشتدُّ إليها لُبابُ أهل العقل لفتح ثقافةٍ جديدة تدفع إلى إزالة حواجز الحُرُم المكثَّفة على تخوم الجماعة..

 

لقد لازمتنا القيادة والخلافة بشقيها السياسي والديني منذ نشأتنا التاريخية، فبتنا أسارى أصنامها وتماثيلها التي نحتنا منها ما يلزم لعبادتنا اليومية، وآمنا بها كصراط وسبيل للوصول إلى داري الدنيا والآخرة، بلا مرشد وأمير وفقيه وزعيم، إذاً، أنت ناقص العقل والدين، لأنَّ الله أمرنا باتباع رسل الرسل ممن أكرمنا الله بهم وجعلهم أوصياء وأولياء على الروح والجسد وعلى الناس الذين يعكفون على عبادة في تجارة دينية وسياسية تنجيهم من عذابٍ أليم..

 

حسبنا الله ونعم الوكيل. فكل من يحاول أن يقدِّم قراءة جديدة على ضوء الواقع والعقل والاجتهاد، فإن لم يُرمَ بالهرطقة والكفر والإلحاد، يُرمى ويُهدَّد برصاص الحقد كنفوسهم الحاقدة ونفس كل من يظن أنه يملك الحقيقة، ويملك التاريخ وما فيه، كثيرون هم أمثالك، يصدحون ويمتازون بامتلاك قوة المنطق وعلم موسوعي بالتاريخ، فيهتز الكثير من جماعات اللحى وتجار التوابل من قريش، وفضح عناوينهم الغامضة التي كانوا يضحكون فيها على عامة الناس، وكأنهم وكلاء رسميون عن الله تعالى يكشفون المستور الذي لا يعلمه إلاَّ رب الصدور والألباب. إنَّ أكبر جريمة في تاريخنا الإسلامي أنَّ نحوِّل الدين إلى واجهة للوصول إلى الحكم والسيطرة على الناس، وأن يتحوَّل دين النبي محمد (ص) للوصول إلى السلطة الدينية للمارسة التنكيل والتهديد والتفرقة العنصرية تحت إسم رب السماء..

 

الويل كل الويل لمن أراد أن يفتح العقل على كتاب التاريخ الذي قلَّ فيه الضوء وكثرت فيه الظلمات، وترى صراعاً دموياً شرساً من أجل الحفاظ على الحكم والسلطة والنفوذ والمال والنساء والاستبداد، فالخيال والمخيال لا يخرج عن كونهما إلاَّ نتاج تاريخ خيالي لفكرة الدولة والخلافة في الإسلام، لا تخرج عن كونها لتأليف صورة ذهنية قد تكون جميلة، ولكن للأسف ليس لها حقيقة في تاريخنا وواقعنا، تماماً، كما وصف الكاتب القدير الإسباني (ميجيل دي سرفانتس) في قصته الشهيرة (دون كيخوته) حيث يعيش البطل العجوز في الماضي، مسبوقاً في قراءة الكتب القديمة، حيث تستبد فيه الرغبة في أن يكون فارساً بعد أن انقضى زمن الفرسان فيرتدي الدرع ويمتشق السيف، ثم يتخيَّل طواحين الهواء جيوش الأعداء فيهجم عليها ليهزمها. فبعد أن اشترينا أنفسنا بوقفة تأملٍ وتفكرٍ مع الذات والله، لنجد في مرآتهما ما لا يُرى في سبيلٍ سلسبيلٍ يُغذَّي الروح والعقل ويبعث فينا ما يُطمئن أننا نحن، لا أحد غيرنا يحتلنا ويُقيم ما بين الجسد والروح، ويغتال فينا كل فرحٍ ممكن، أو دورٍ استخلفنا الله له حتى نَبرَّ أنفسنا ونذهب عنها رجس السياسة والسياسيين والديَّانين الذين يريدوننا عبيداً لأصنامٍ جديدةٍ من لحمٍ ودم.