منذ أن تعلّمتُ العربية، ودخلَت شِغاف القلب، وعشّشت في الدماغ، انتابني شعورٌ غامض، إذا كنتُ عربياً ،فأنا ضائعٌ في هذه البلاد الغريبة، لا أنتمي لبلاد الشام الغنّاء ، أنتمي لجزيرة العرب، إمّا الجنوب في اليمن، أو الشمال في نجد والحجاز، وخلاف ذلك، ما سرُّ تعلّقي بأشعارهم ورواياتهم، ورجالاتهم  ونسائهم، آه من نسائهم! عبلة وليلى وهند ورند ونُعم، وعُنيزة، أعرفهم خيراً من نساء هذه البلاد، ما قيمة عنترة بلا عبلة، ومجنون بني عامر بلا ليلى، واستهوتني أيامُ "الجاهلية"، أنا "جاهلي"، وسيرتي شبيهة بسيرة "قُصي" الجاهلي، جدُّ الأسرتين ، أسرة النبي "ص" والأمويين، فهو، أي "قصي بن كلاب بن مُرّة" لمّا كان غلاماً، وكان يُدعى إلى "ربيعة بن حرام" ،الذي تزوج أم قصي، بعد هلاك كُلاب، فاحتملته معها فطيماً إلى بلاد ربيعة، فلما ترعرع ، تسابّ مع رجلٍ من قضاعة، فعيّرهُ بالدعوة وقال له: لستَ منّا، وإنّما انت فينا مُلصق، فدخل على أمّه، وقد وجم لذلك، فقالت له: يا بُني، صدق، إنّك لست منهم،  ولكن رهطُك خيرٌ من رهطه، وآباؤك أشرفُ من آبائه، وإنما أنت قُرشي، وأخوك وبنو عمك بمكة، وهم جيران بيت الله الحرام، فدخل في سيّارةٍ، حتى أتى مكة.فتزوج قصي "حُبّى" ابنة حُليل بن حُبشية، وكانت عنده مفاتيح البيت الحرام، حيثُ كانت خُزاعة قد ورثت ذلك كابراً عن كابر، وكان حليل قد عهد بالمفاتيح إلى أبي غبشان، وهو من خزاعة، واسمه سليم بن عمرو، فابتاعها قصي بزقّ خمر، فقيل: أخسر صفقةٍ من أبي غبشان، ولما هلك حليل ، ولم يعقبه ذكر، أوصى بولاية البيت إلى" صهره قصي، فأبت خزاعة ذلك، فهاجت الحرب بينه وبين خزاعة.

 


وجه الشبه القريب بيني وبين "قصي"، ودائما بلا قياس وتشبيه، أنّه عاش غريبا في بلاد غريبة وأهلٍ غرباء، وعاد إلى مكة ، والشبه البعيد، إني أقمت غريبا كما قال المتنبي:

 

أنا في أمةٍ تداركها الله

 

غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ.

 

 

وما زلت أغالبُ دهري ،مقيمٌ في بلاد الشام، وحنيني إلى مملكة قصي، وهو أولّ بني كعب بن لؤيّ، أصاب مُلكاً أطاع له به قومُه، فكانت له الحِجابة ( أن تكون مفاتيح البيت عنده فلا يدخله أحدٌ إلا بإذنه)،  والسِقاية ( يعني سقاية زمزم، كانوا يصنعون بها شراباً في الموسم للحاجّ الذي يوافي مكة، يمزجونه تارةً بعسل، وتارةً بلبن،  وتارةً بنبيذ، يتطوعون بذلك) ،والرِّفادة (طعامٌ كانت قريش تجمعه كلّ عام لأهل الموسم، والندوة ( الإجتماع للتّشاور، وكانت الدار التي اتّخذها قصي ، لذلك يقال لها دار الندوة، وهذه الدار صارت بعد بني عبد الدار إلى "حكيم بن حزام بن خُويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي"، فباعها في الإسلام بمئة ألف درهم، وذلك في زمن معاوية، فلامه معاوية في ذلك، وقال: أبِعتَ مكرمة آبائك وشرفهم؟ فقال حكيم: ذهبت المكارمُ إلاّ التقوى، والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزقّ خمر، وقد بعتها بمائة ألف درهم، وأُشهدِكم أنها في سبيل الله، فأيّنا المغبون؟) ، واللواء( يعني في الحرب، لأنه كان لا يحمله عندهم إلا قوم مخصوصون).فحاز شرفَ مكة كلّه، ويزعم الناس أنّ قريشاً هابوا قطع شجر الحرم في منازلهم فقطعها قصي بيده وأعوانه، فسمّتهُ قريش مُجمّعاً لما جمع من أمرها، وتيمّنت بأمره، فما تُنكحُ امرأةٌ ، ولا يتزوج رجلٌ من قريش، وما يتشاورون في أمرٍ نزل بهم، ولا يعقدون لواءً لحرب قومٍ من غيرهم، إلاّ في داره، فكان أمرُه في قومه من قريش، في حياته ، ومن بعد موته، كالدّين المُتّبع، لا يُعملُ بغيره، واتّخذ لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها.

 


طُمس تاريخ قصي في الإسلام، ربما لأنّه "جاهلي"، مثلي تماماً، أما في الجاهلية لطالما أرّخوا بموت قصي وبناء الكعبة، وهذا ابن اسحق يقول: حدّثني عبد الملك بن راشد عن أبيه  قال: أنّه سمع رجلا يحدّث عمر بن الخطاب ، وهو خليفة ، حديث قُصي بن كلاب، وما جمع من أمر قومه، وإخراجه خزاعة وبني بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة، فلم يرُدّ ذلك عليه ولم ينكرُه. وهكذا عُدّ سماعُ عُمرَ لسيرة قصي ،دون الردّ، من فضائل عمر، وإذ أتشبّه اليوم بقصي، أو أتتطاول لذلك، لأنال فضلاً من بعض فضائل عمر، وأرجو أن لا يذكر أحدٌ بعد اليوم الخمر بسوء، فقد حاز قصيٌّ مفاتيح البيت بزقِّ خمر، وهذا حكيم بن حزام اشترى دار الندوة بزقّ خمر، فلو لم يكن للخمر شأن، لما حازت هذه الشمائل.