تبدو الكرامة في اللغة السياسية اللبنانية كلمة محيِّرة، لنرى: نسمع رئيس البلاد أو فخامة الرئيس، يقول ومع تفخيم في الصوت: نريد كرامة، لا نعيش بلا كرامة. نسمع دولة الرئيس أو رئيس المجلس النيابي، يقول مع قلقة في الصوت: لا نفرِّط بشبر أرضٍ أو قطرة ماء من مياهنا، لأنها هي الكرامة، ولا نفرط بها. نسمع دولة رئيس الوزارة ـ الحكومة ـ يقول: نريد الكرامة ولا نعيش من دونها. النائب: من أجل الكرامة. الوزير: نعمل للكرامة. المسؤول: مسؤوليتنا الكرامة أولاً. الحاج صاحب اللحية: نأكل مع الحيوانات من حشائش الأرض لتبقى الكرامة... قال رجل الدين: مسلم شيعي وسني، مسيحي بكل طوائفه، درزي علوي، وهكذا، علينا العيش بكرامة. وأما هوام الأرض قالوا: صحيح أنَّ رؤوسنا في (المجرور) لكن الكرامة محفوظة. غريبة هذه اللغة العربية اللبنانية، وعجيبٌ أمرها، كرامة مَنْ؟ كرامة الرئيس ـ الزعيم ـ كرامة الناس؟ كرامة الأرض؟ كرامة الحجر والبحر والتراب؟ كرامة الدولة؟ ولكن من هي الدولة؟ وما شكلها وشكل كرامتها؟ هل تشبه كرامة الفخامة والنيافة والسعادة، أم تشبه كرامة الناس والمواطنين؟. إنها الكرامة المحيِّرة، وأيضاً المرتبطة بمجموعة من المفاهيم الأخرى، كالدين والرجولة والتاريخ العريق، وبالرغم من كل الإجتهادات والدراسات في تخصيص هذه الكلمة وحصريتها في اللغة العربية، تبقى النتيجة العملية هي أنَّ الكرامة في هذا البلد والتي أنتجتها وأفرزتها تلك الطبقة الدينية والسياسية، لا تعني مفهوماً واضحاً، ولا تُمثِّل قيمة ملموسة في حياتنا وحياة معظم المجتمع والشعب اللبناني.. هل تشعر بالكرامة عندما تستعيد حبة تراب أو شبر أرض مهملة، أو متر ماء آسن وملوَّث لا يصلح حتى للحيوانات، ثم تندفع مع جمهور السلطة العجيبة الغريبة في الإحتفالات بهذه الكرامة الوطنية المستعادة؟؟!. هذه تكون عند الدول المحترمة والتي تحترم إنسانها وحيوانها وأشجارها، وتحترم الكرامة الإنسانية وتشعرك بوجودك وأنك أنت المحترم لا السلعة والبضاعة والأحذية، إنها الدولة المحترمة التي تحميك وتحمي عرضك وشرفك وتكرِّس طاقتها لحماية مواطنيها داخل الوطن، بينما لم تعد تشعر أنَّ دخلك البائس الذي جعلك متسوِّلاً جارحاً لكرامتك؟؟. ولم تعد تشعر أنَّ وقوفك في طوابير من أجل رغيف خبز أو شراء دواء أو دخول مشفى أو مؤسسة أسِّست عبر أخماس وأسداس وأثمان، تجعلك تقف مذلولاً، ولا تحس بجرح عميق في قلب كرامتك؟؟. هل الكرامة متعلِّقة بكمشة تراب أو بمتر وشبر ماء، ألا تفضِّل أن تنفض الغبار والتراب أو تريق شبر الماء الآسن الفاسد، والترفرُّغ لرفع الذل أمام فرن خبز أو صيدلية دواء ـ أنا واحد منهم ـ لكن سأبقى أنتقد ما يسيء بحسب الفهم لهذه الشعارات، بل واختزال مفهوم الكرامة بهذه الرموز التي أشعر بأنها مؤامرة على المواطنين وإلهائهم عن الحياة البائسة، تماماً كمفهوم ـ قاعدة التعويض ـ في عالم الآخرة، والتي أفرزتها أيضاً السلطة الدينية الحاكمة من أنَّ المواطن يخسر حقه في الحياة أو ضاع حقه أو سرق حقه، فإنَّ الله تعالى يُعوِّض له في آخرته ما خسره في حياته، مع أنه سيحاسبه الله على تقصيره بدلاً من تعويضه، لأنَّ الساكت عن الحق ـ حقه ـ أو الساكت على الضيم يجعله ظالماً بعد أن كان مظلوماً ـ لكن الكرامات والحقوق والأخلاق هي ليست قضية درامية، بل إنها مفاهيم تبنى بهدوء وتلمس في مظاهر الحياة اليومية ويصعب اختزالها في لحظةٍ ووضعها على مسرح خشبة الحياة ويرفعونها أناشيد وطنطنات صادرة من حناجر ذكورية، وذكورية رجولية فقط وفقط لا غير.