قبل 48 ساعة على موعد الاستشارات النيابية الملزمة تبدو الصورة أكثر تشويشاً من قبل، فالضبابية المحيطة بعدد من المواقف انسحبت على الاستعدادات الجارية بطريقة حادة توحي بأنّ المواجهة لن تكون سهلة ما لم تتوافق الكتل النيابية المعارضة والتغييرية على مواجهة من سيسمّي الرئيس نجيب ميقاتي على قاعدة واقعية تقول «إن تَمّت تسميته للتأليف فإنه لن يستطيع التأليف ولكنه سيحكم». فكيف يمكن الوصول الى هذه المعادلة؟

 

على الرغم من تَناسل الازمات التي تعصف بحياة اللبنانيين اليومية بالنظر الى تعدد وجوهها والعجز في مواجهة أيّ منها للتخفيف من آثارها السلبية بعدما شملت مختلف القطاعات الحيوية والمعيشية، فإنّ الاستعدادات القائمة تحضيراً للاستشارات النيابية الملزمة التي دعا إليها رئيس الجمهورية بعد غد الخميس توحي بأنّ المواجهة قائمة لا محال. وما هو ثابت وفق كل القراءات الدقيقة التي أجريت ان ليس هناك ايّ طرح او سيناريو يُجنّب الإنقسام الحاد حول عملية التأليف بين مجموعة موحدة بالحد الادنى الذي يضمن تسمية ميقاتي للمهمة، واخرى مُشتّتة تسعى الى هذه المرحلة من دون بلوغها حتى الامس القريب.

 

وان كانت المجموعة الاولى المتضامنة التي يقودها «الثنائي الشيعي» ومعه عدد من النواب المستقلين الذين ركبوا قطاره النيابي الى ساحة النجمة تتمتّع بالقدرة على المبادرة اكثر من غيرها، فإنّ التكتلات النيابية الاخرى ما زالت مشتتة لا يجمعها اي قاسم مشترك. وهو أمر تترجمه الخلافات القائمة حول الاسم المطروح الذي يمكن تسميته لمهمة التأليف في مواجهة ميقاتي. او لجهة البرنامج الحكومي الذي يمكن ان يقود الى تنفيذ المهمة الكبيرة المُلقاة على عاتق الحكومة العتيدة لمواجهة ما هو مطروح من استحقاقات كبرى تعجز عنها الحكومات القوية والقادرة المفقودة، والتي لم يعرفها العهد منذ بدايته فكيف وهو على مسافة اشهر قليلة من نهايته.

 

وانطلاقاً ممّا هو مُتوافر للمجموعة النيابية المتضامنة من مقومات بوجود نواة نيابية تفيض على 60 صوتاً وليس من الصعب الوصول الى ما يتراوح بين 65 و67 نائباً ان احتدمت المواجهة وبقيت الاستشارات في زمانها، فإنّ بقية الاطراف ليست موحّدة وليست جاهزة لتكون كذلك ان اضطرّت الى المواجهة مع القوة الاولى. لا بل فإنّ عملية تدقيق وإحصاء بسيطة تظهر بما لا يرقى اليه الشك انّ كتلة «لبنان القوي» ما زالت تغرّد وحيدة في سماء ساحة النجمة من دون ان يكون لها أي حليف مُعلن عنه طالما انّ الحديث عن اتصالات مفتوحة مع كتلة النائب طوني فرنجية لم تتقدّم الى درجة التحالف بينهما لصعوبته عندما يتصل الامر بتسمية ميقاتي. فالتنسيق القائم بين فرنجية وكتلتي حركة «أمل» و«حزب الله» قد يتقدّم على اي سيناريو آخر.

 

كما انّ الاتصالات الجارية على اعلى المستويات بين كتلتي الحزب التقدمي الاشتراكي و«الجمهورية القوية» تتجنّب الحديث عن موقف موحد لم يتم التوصّل اليه بعد. وان لم ينقطع الحوار بينهما تجدر الاشارة الى ضرورة التمييز والفصل عند تسمية الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة بين كتلتي «التقدمي الاشتراكي» كنواة مصغّرة وكتلة «اللقاء الديموقراطي» الموسعة لأسباب متعددة، فمن بينهم من يؤيّد بقاء ميقاتي في السرايا الحكومية ومن يدعو الى التجديد والتغيير.

 

اما على مستوى الكتل النيابية الاخرى، المعارضين منهم والتغييريين، فما زال الفصل بينهم واجب الوجوب. ولا يمكن الحسم في تَوافقهم، لأنّ هذا الخيار ما زال قيد الاختبار الصعب، قبل استكشاف مدى قدرة السّاعين الى التفاهم فيما بينهم على خلفية انه لا بد من اتخاذ مثل هذا القرار من قوى وأحزاب ومجموعات خاضَت الانتخابات النيابية جنباً الى جنب. وانّ ما شهدته جلسات انتخاب رئيس المجلس ونائبه واميني السر والمفوضين الثلاثة ورؤساء اللجان النيابية واعضائها والمقررين تفرض هذا الأداء ولا يجب ان تتكرر مرة اخرى.

 

وعليه، لم يظهر بعد إن كانت هذه المساعي ستجمَع كلّاً من النواب التغييريين مع كتلة نواب حزب الكتائب و«حركة الاستقلال» والنائب نعمت افرام ونائبي صيدا اسامة سعد وعبد الرحمن البزري. وقد جاءت خطوة نائبي حزب «تقدّم» مارك ضو ونجاة عون صليبا بتسمية السفير نواف سلام قبل ظهر امس لتشكّل ضربة استباقية قاسية وموجِعة لمساعي توحيد التغييريين خلف اسم واحد قبل الحديث عن تكوين اكثرية كبرى تجمعهم مع الحلفاء المحتملين، خصوصاً انّ من بين التغييريين مَن يدعم أسماء اخرى، فالنائب بولا يعقوبيان تخوض معركة تسمية الدكتورة سارة اليافي حفيدة الرئيس الراحل عبدالله اليافي من دون ان يكون لها مناصرون يغلّبون رأيها على الآخرين. ويصرّ آخرون من بين هؤلاء ـ وإن كانوا قلة قليلة - على ضرورة السعي الى تجاوز الصداقات الشخصية عند البحث عَمّن يفتح الطريق الى تَوافق أكبر على اسمه يضع مجموعتهم الى جانب من يوفّر أكثرية تخوض المواجهة المفتوحة مع المنظومة القائمة.

 

وعلى هذه الخلفيات ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل المُملة التي أدت الى وضعٍ سيقود حتماً الى ما يمكن تسميته «حفلة زجل» او ما يشبه «مسرحية هزلية» سيشهدها قصر بعبدا بعد غد الخميس تقدّم نموذجاً فاقعاً عن مدى حجم فهم أهمية الاستحقاق وما يمكن ان تؤدي اليه التصرفات المبنية على آراء شخصية وعلاقات حميمة تَجمع هذا او هذه بذاك او تلك. ولذلك فإنّ خيارَي العودة بميقاتي الى السرايا او اختيار اسم بديل يقودان الى معادلة بسيطة تقول ان نجح دُعاة عودته الى السرايا فإنّ هذا الأمر قد يؤدي الى تكليفه من دون القدرة على التأليف بلا مصالحات مطلوبة ولكنه سيحكم من بوابة حكومة تصريف الاعمال كما من باب الحكومة العتيدة ان شكّلت، وفي حال العكس تتعدد السيناريوهات التي لا مجال لتعدادها من اليوم.

 

وبناء على كل ما تقدم، فالمرحلة ـ في رأي مراقبين سياسيين وديبلوماسيين مستقلين ـ تستدعي الارتفاع الى مستوى اعلى لمواجهة المخاطر التي تُحدق بالوطن وكيانه وثرواته في زمن افتقد اللبنانيون أبسط مقومات العيش ويحتاجون الى مَن يتطلّع الى طريقة الخروج من النفق المظلم الذي دخله لبنان وإعطاء الاهمية للاستحقاق المقبل، ألا وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تتضافر الجهود من اجل الوصول به الى قصر بعبدا من اجل فتح صفحة جديدة مع العالم الذي فقدَ الثقة بلبنان واللبنانيين وبمسؤوليه ويمكن ان يستثمر في التعاطف الدولي معه، والذي لا ينتظر من اللبنانيين سوى إبداء الجدية والشفافية في مواجهة الاستحقاقات المقبلة وقراءة المخاطر المحدقة بالبلاد والعباد قبل اي شيء آخر.