من يدقق في الوضع اللبناني يقف بحيرة من أين يبدأ. هل من الداخل الذي لا تزال تعصف به الازمات المتناسلة وبوتيرة أشد على وقع النزاع بين القضاء من جهة، والمصارف من جهة ثانية، فيما دخل البلد في مرحلة الانتخابات النيابية التي يشك في حتمية إجرائها في موعدها أم من الخارج الذي لا يزال يعيش تحت وطأة الغزو الروسي لأوكرانيا، ما خلط أوراق العلاقات الدولية والإقليمية على وقع التحدي الاقتصادي العالمي الذي فرضه ارتفاع أسعار الطاقة، وهو ما أعاد تأكيد الأهمية الاستراتيجية للمنطقة الغنية بالنفط. الحراك الكبير والعميق على مستوى المنطقة لم يبدأ بالطبع مع الحرب الأوكرانية، لكن هذه الحرب سرعته خطوات إلى الأمام، ولا سيما أنها تزامنت مع تقدم غير مسبوق في المفاوضات الإيرانية الأميركية بشأن إعادة إحياء الاتفاق النووي الذي يُعد قنبلة جيوسياسية في المنطقة. خصوصاً في ظل شكوك الدول العربية الخليجية وإسرائيل ومصر والأردن من مضمونه، وتحديداً لناحية عدم ضبطه أجندة إيران التوسعية وبرنامجها الصاروخي. حتّى الآن لم تصدر إشارات أميركية جدية إلى نوايا واشنطن تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة. وبالتالي لا يمكن القول إن هناك اعترافاً أميركياً نهائياً بحجم النفوذ الإيراني في الدول العربية . كل ذلك يطرح أسئلة كبرى عن مستقبل العلاقات والتحالفات بين دول المنطقة، وعن علاقة هذه الدول، ولا سيما دول الخليج، مع القوى الدولية الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة وروسيا والصين، وذلك في وقت أعاد موقف الدول الخليجية ومصر من الحرب الأوكرانية إنتاج ما يمكن تسميته حركة عدم انحياز عربية إزاء الصراع المتفاقم بين الغرب من جهة، وموسكو والصين من جهة ثانية. على الرغم من دلالاتها المهمة فإن زيارة الرئيس الاسد للإمارات العربية المتحدة، وهي الزيارة الأولى له لبلد عربي منذ اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، ليست المؤشر الوحيد على تبدل الأولويات والأجندات الجيوسياسية في المنطقة. فقد أشارت صحيفة وول ستريت جورنال إلى فشل البيت الأبيض في التواصل مع ولي العهد السعودي ومع ولي عهد أبو ظبي على وقع أزمة النفط العالمية، وهذا أمر إذا صح يُعد تطوراً غير مسبوق في وتيرة العلاقات الخليجية الأميركية. ويُعد أيضاً انعقاد اللقاء الثلاثي الإسرائيلي المصري الإماراتي في شرم الشيخ حدثاً إقليمياً بالغ الأهمية في توقيته، إذ يندرج حتماً في سياق استعداد دول المنطقة الرئيسية لِما بعد الاتفاق الأميركي الإيراني. كما يأتي توقيت قصف الحوثيين منشآت نفطية سعودية بإيعاز من إيران للتأثير والضغط على العلاقات الأميركية السعودية في لحظة تطالب خلالها واشنطن المملكة بضخ مزيد من النفط في السوق فيما تتمسك الرياض باتفاق أوبك بلاس مع موسكو ويطرح هذا القصف السؤال القديم الجديد عن مدى استعداد واشنطن للدفاع عن حلفائها التقليديين وعن أمن الطاقة في المنطقة. ستكون لكل هذه التطورات المتسارعة انعكاسات على الوضع اللبناني الذي سيتأثر بشكل مباشر بالاتفاق الأميركي الإيراني. المفارقة أن الحزب الذي يصور معركته الانتخابية في لبنان بأنها في وجه أميركا وأدواتها في لبنان، سيكون هو نفسه أول المستفيدين من الاتفاق الإيراني الأميركي الذي سيُدخل المنطقة في عصر سياسي وأمني جديد. في نهاية الأمر ستكون المنطقة محكومة في مرحلة ما بعد هذا الاتفاق بديناميكية العلاقات الإيرانية الأميركية حتى الآن لم تصدر إشارات أميركية جدية إلى نوايا واشنطن تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن في الوقت نفسه لا يمكن القول إن هناك اعترافاً أميركياً نهائياً بحجم النفوذ الإيراني في الدول العربية. فأولوية واشنطن راهناً هي توقيع الاتفاق مع إيران، ولذلك قلصت ضغوطها على حركة إيران الإقليمية بغية ضمان حصولها على هذا الاتفاق. لكن في نهاية الأمر ستكون المنطقة محكومة في مرحلة ما بعد هذا الاتفاق بديناميكية العلاقات الإيرانية الأميركية التي ستتحرك بين حدين لا ضغوط أميركية قصوى على أجندة إيران التوسعية ولا اعتراف أميركياً نهائياً بهذه الأجندة. في هذه الحال، سيكون لبنان ساحة اختبار أساسية لوتيرة العلاقات الإيرانية الأميركية في المرحلة القادمة، وإن لم تظهر حتى الآن مؤشرات واضحة ومباشرة إلى ذلك. لكن زيارة الرئيس ميشال عون المفاجئة للفاتيكان تحمل بعضاً من تأثيرات المناخ الدولي والإقليمي الجديد في المنطقة، أو هي مؤشر أولي إلى انعكاس هذه المتغيّرات على لبنان. يبدوأن السؤال الأبرز في السياق اللبناني يبقى ماذا سيفعل الحزب في لحظة التحول الكبير الذي يمثله إبرام الاتفاق الأميركي الإيراني، هل يذهب إلى الانتخابات النيابية لإثبات شرعيّته اللبنانية، وهو ما سيمكنه من الإمساك بورقة قوية بوجه الداخل والخارج، أم يتجنب الاعتراف مرة جديدة، عبر خوضه الانتخابات، بالنظام السياسي القائم، فيسعى إلى ما هو أكبر من الانتخابات، أي إلى مؤتمر تأسيسي يعيد صياغة موازين القوى الطائفية السياسية داخل النظام اللبناني وللحديث صلة.