لم أكتبْ عن المغرب «الحسَّاس» من قبل حتّى جاء «ريَّان» وسقطَ في بئر أحزاننا العربية ثلاثين مترًا.

التَّشريح قال إنّه قد سقطَ نتيجةَ إهمالنا العربيّ المتعمّد ككلّ، لا في لحظة سَهو... ولم نصدّق.

قال.. إنّه لم يتحمَّل برودة مواقفنا العربية وهواننا وصمتنا.. ولم نُصدّق.

قلنا: نحنُ لم نتحدّ على شيء من قبل مثل ما توحدّنا على شيء مثله ، لخمس أيام كنا نراقبُه وكنّا فقط نتساءل: هل يأكل، هل يشرب؟ 

وأجابنا المشرحون: ولكنكم لم تسألوا: هل كانت له أحلامًا طفوليّة ؟ هل  كان يدرس؟ هل كان يسكنُ بأمان؟

كان الفُضول الطُّفوليّ من دفع بريَّان داخل ذلك الأنبوب الصَّحراوي الضَّيّق، كان يظن أنَّها مِزلَقة في مدينة ملاهي قد تأخذه إلى الطُّيور الملونة والغابات المسحورة، وكان فضولنا العربيّ يطل عليه من فوق ومن الشَّاشات ومن الكاميرات الصَّغيرة التي دخلت بطن الأرض. في لحظةٍ، أصبح الطّفل المقوس الظَّهر والمكوّم عالقًا هناك، في حفرةٍ مظلمة، وفي لحظةٍ، أصبحَ خبرًا لكلّ المحطَّات التي لم تقصدْ منطقةَ شفشاون المغربية من قبل والتي أصبحت مرابطةً بمراسليها أمام فوهة البئر.

 

حزنتُ كثيرًا على ريَّان وأنا أتابعه لخمس أيام وقد سكنتني أبوة عجيبة تجاهه، وكنتُ أعرفُ بقهرٍ، بأنّه لنْ يغادره حيًا ما دمنا قد تجاوزنا اليوم الثالث ونحن في انتظار إخراجه بفريق من الطبوغرافيين الخبراء والعمّال والآلات والحفَّارات. الصّحفيون أوهمونا في اليوم الخامس بأنَّ للأطفال صمودًا عجيبًا يفوق الكبار، والسياسيون أوهمونا بأنَّ الطفل ريان هو طفلهم العالق وأنهم سيغيّرون قدره بمجرد خروجه ولن يرعَ ألعابه الصوفيّة بعد اليوم وحيدًا، وبعض المشاهير أوهمونا بتبنّيه حال إخراجه، ونحن أوهمنا قلوبنا بأنَّ زمن المعجزات ما يزال موجودًا واصطفيناه نبيًا صغيرًا كيُوسف وموسى ويونس.. وصدَّقْنا!

 

التَّشريح.. قال إنّ الإعلام قتله كما قَتل الطّفل محمد الدّرة منذ عشرين عامًا، وإيلان، وآلافًا من الأطفال في الخِيام و الآخرين المخطوفين لدى العصابات، إما للاتّجار بأعضائهم وإمّا لطلبِ فديةٍ من عائلاتهم المقهورة، وإما لإعدادهم مشاريع مقاتلين عن صغر، وغير ذلك..

كم كان ممكنًا للإعلام أن يُنقذ آلاف الأطفال لو أنه سخّر ترسانته الإخباريّة كلّها كما فعل مع ريّان!

ولكن التَّشريح قال إنَّ الإعلام العربيّ تاجر بوجهه وروحه وأعضائه وكسوره كلّها وحتّى دمه وجراحه.

لقدْ تُوفّي ريَّان بردًا مستجديًا غطاءً إنسانيًا لا «غطاءً إعلاميًا» تاجر به بكاميرات جوسسة، امتدتْ إليه ثلاثين مترًا عمقًا ولم تنقذه.. الإعلام لم يخبرنا عن وفاته قبل اليوم الخامس نحن الّذين سمعنا إحدى المراسلين يقول لحظة إخراجه في إحدى المحطّات بأنه غادر مبتسمًا.. وفرحنا، ولكن لم يقل لنا أحد لحظتها، إنَّ الابتسامة تلك قد كانت على وجهٍ باردٍ محنّطٍ وأنها قد كانت ابتسامةً مجمدّة باهتة منذُ أيَّام.

 

في لحظةٍ تذكّرت قولاً لبطلِي في روايتي قطافُ الخَريف: « لا أحد يتوقّع ماذا سيفعلُ به الإعلام لحظة تسليط الأضواء نحوه».

وقد فعل به تسليط الأضواء الكثير.. الأضواء التي لم تضيءْ حتّى عتمته داخل البئر العميق. لم يكن يهتمّ سوى بنسب المشاهدة المرتفعة، التي لم يحققها منذ وقت طويل في الحروب التي أصبحت مشاهدها عاديّة، بل لقد استخدم جثته المعلقة ليتجاهل من ورائه أخبارًا أخرى لم تعد تعني شيئًا فجأةً منذ سقوطه في البرد والعتمة المخيفة.

سيارات الإسعاف كانتْ مضحكةً في تراصفها.. ولم تخجل من دموع أمه وحسرة والده، كانت عرضًا تمثيليًا، فهي تعلم أنها ستنقله ميتا في الوقت الذي لم يخبرنا أيّ إعلامي بأنه قد (خرجَ) بروحه منذ يوم أو يومين قبل إخراج جسده!

الإعلاميون تستروا على الخبر الحقيقيّ لأسبابٍ كثيرة منها كي لا تتحول عملية الإنقاذ الجارية من بطولةٍ إلى نكسةٍ، وكي نظل متحرقين إلى النهاية.. وألبسُوا فريق الإنقاذ سترات نجاة جديدة لتلمع أمام الكاميرات غير التي نبشوا بها الأرض، وعرضت بعض الشركات البراغماتية علينا في الوقت نفسه ملابسَ تحمل صورته وعبارة Save Rayen  بـ 37 دولارًا لنرتديها تضامنًا معه.. بكل صفاقةٍ!

 

العلم الحيويّ كان يقول لنا بالحقيقة باكرًا، وهي أنَّ لا أحد في إمكانه الصمود عطشًا لثلاثة أيام وحدها فكيف بخمس أيام؟ وكذبناه في سرّنا وقلنا بلى، إنّ ريَّان نبينا الصغير الذي سينجو بلا شك.. وقال بعضنا للعلم: 

كيف لكلّ تلك الضخامة التّكنولوجية التي استطاعت أن تشرخ الفضاء المظلم بإبرةٍ صاروخيّة، عاجزة عن شرخ بئر دون أن ينهار ترابه على الطفل ريان، فلنجأ إلى الحفر بالأضافر لإنقاذه؟ العلم الذي يعرف كيف يغرس الألغام تحت الأرض ويعجز عن إخراج طفلٍ (تحت الأرض)؟ إنّه العلم نفسه الذي يعرفُ تمامًا كيف يبتكرُ فيروسًا يعطّل تنفس البشريّة كلّها ولا يعرفُ كيف يجعلُ طفلا واحدًا يتنفّس بكمامةٍ داخل مكان ضيّق!  العلم الّذي أضحى يعرف حُبيبَات تراب القمر جيَّدًا ولا يفهم سيزيح حُبيبات التراب الذي يحجز ريّان بالطريقة الأمثل، العلم الذي دخل إلى أنفاق زحل ولم يستطع الوصول إلى ريان الوحيد داخل نفقه البارد؟

 

رحل ريان إذًا، تاركًا وصمةَ عار على جبين ملايين الشَّاشات..

رحل لأنّه اكتشف حقيقتنا..

رحل لأنَّه أدرك أن صخرة سيزيف التي توقفت أمامه لتحُول دون سقوطه أكثر نحو الظلام كانت تريده أن يذهب إلى عالم أجمل من عالم يتداعى ويسقط أطفاله كل يوم في الآبار المتسخة والوديان وحفر الطريق وصولًا إلى مدرسةٍ ما..

لقد رحل لأن الله وحده الذي اختار إنقاذه منَّا.. !