في تعبيرٍ لفظيٍّ مُتسرّع، قال منذ عِدّة أيام السيد شارل جبور( رئيس جهاز الإعلام والتواصل في القوات اللبنانية) أنّ العقيدة التي يعتنقها حزب الله في لبنان( ولاية الفقيه)، ما هي إلاّ "تجليطة" تعود إلى ما يقرب من العصر الحجري، ممّا أثار لغطاً واستياءً في أوساط بيئة حزب الله، واستدعت ردوداً عليه أُضيفت للحملات المسعورة ضدّ القوات اللبنانية، التي انطلقت منذ فترة طويلة، واستعرّت بعد أحداث الطيونة الأليمة التي وقعت منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وما لبث السيد جبور أن اعتذر عن كلامه هذا، واعتبره انفعالاً لا لزوم له، وحسناً فعل، لا لأنّه من قبيل اللّغو، بل لأنّه كلامٌ خاطئٌ بالأساس، فعقيدة حزب الله المُلتحمة عُضويّاً بولاية الفقيه الإيرانية، والمشفوعة بمدَدٍ إيرانيٍ لا ينضب من المال والسلاح، ليست بالتأكيد "تجليطة" كما ذهب إلى ذلك السيد جبور، ولا هي مزحة ولا مسألة عرضية أو عابرة، بل هي نهجٌ دينيٌّ-سُلطوي، توسّعيٌّ مُتشدّد، يرمي إلى رعاية مصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المنطقة العربية والخليج، مع تسهيل بسط نفوذ الحرس الثوري الإيراني عليها، تحت ذرائع واهية، لعلّ أبرزها مقارعة الأمبريالية الأميركية، لإخراجها من من منطقة الشرق الأوسط والحلول محلّها، ويدرك اللبنانيون جميعاً، وأهل الشيعة على وجه الخصوص مدى الخلل والتفكُّك والخراب الذي ألحقتهُ عقيدة حزب الله وسلوكياته الإجتماعية والنفسية في البُنية المُجتمعيّة للطائفة الشيعية، وهي باتت راسخة في الأذهان والسلوك والإجتماع والثقافة والوعي واللّاوعي، وليست ضرباً من التوهمات والأباطيل، فقد كرّست عقيدة حزب الله على مدى أربعة عقودٍ من الزمن تعديلات جوهريّة ( كي لا نقول انحرافات) في اللّباس والزّي والمأكل والمشرب والإحتفالات( سواء منها الشعبية أو الدينية)، 

 

 

 

والمراسم والكردسة والتّعبئة والتّنشئة، وتغيير شيفرات ما هو حلالٌ أو حرام، ما هو مكروهٌ أو مُستحب، وأثّرت المعتقدات الجماعية والأحوال النفسية على الجسد، إلى حدود تعطيل معظم وظائفه الحياتية، فهي قادرة بشكلٍ أوّلي، على إحداث استجابات وتحديد ظوابط جسدية بحيث ينتج عن ذلك قولبة مُعيّنة للسلوك مجتمعيّاً وفرديّاً، والواقع أنّ تصنيف الأفعال إلى محظورات ومسموحات، إلى أمورٍ مُحلّلة وأخرى محرّمة، أي مجموعة الأوامر والنواهي التي تحفل بها جماعة من الجماعات، فتُحدّد سلوكها والتزاماتها، لا تتكرّس عمليّاً بالهيّن، بل بالكلفة الباهظة، غير أنّ الذي يعنينا هنا ليس شأن الكلفة، بل شأن العملية بحدّ ذاتها، فلننتقل إذاً إلى بيت القصيد، كيف تمّت عمليات فرض الحجاب والعباءة( في منتصف ثمانينيات القرن الماضي رُفعت يافطة كبيرة في وسط ساحة مدينة بعلبك تقول: حِجابُكِ يا أختي أغلى من دمي)، كانت الفتيات في البيئة الشيعية قد خاضت صراعاً مريراً مطلع ثمانينيات القرن الماضي لخلع الحجاب والدخول إلى ميدان التعلّم والعمل والإختلاط الحّر الذي لا تشوبه شائبة، ومع الموجة الدينية الصدرية التي أطلقها الإمام موسى الصدر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والتي بلغت ذروتها مع انطلاقة حزب الله أواسط ثمانينيات القرن الماضي، ارتدت الفتيات المنضويات تحت عباءة حزب الله الحجاب، في حين كانت أمهاتهنّ ما زلن سافرات، ممّا استدعى مفارقات غريبة، حين تذمّرت الأمهات من سلوك بناتهن، وبعد ذلك كيف تغيّرت مراسم الإحتفالات في الأعراس الشعبية والمآتم الدينية، كيف تمّ إطلاق جيشٍ من قُرّاء العزاء مع رواياتهم التي لا يحكمها عقلٌ ولا ضابط ولا تاريخ، معظمها وُضع في خدمة الفِتن الطائفية والمذهبية، وبلغت تلك التغييرات ذروتها في مراسم إحياء ذكرى عاشوراء، وكيف جرت عمليات تمييز أبناء الطائفة الشيعية عن غيرهم من أبناء الوطن الواحد: أنتم أشرف الناس، وأطهر الناس وأشدّهم عزماً وإيماناً، نحن أسياد البلد، نحن أعزّ الناس عدّةً وعديداً الخ.
قام حزب الله بفضل الوفرة المالية والمدد الإيراني بتثبيت طائفة متكاملة من قواعد السلوك، خاصةً السلوك الجسدي، ولعبت في ترسيخها قوى خفية وغيبيّة بشيفرات مُعيّنة ( المظلومية، الإستضعاف، الإستشهاد، إنتصار الدّم على السيف الخ).

 


تمكّن التنظيم الحزبي والعسكري( ذو الطابع الميليشياوي في بعض الأحيان) لحزب الله من تجنيد أقطابٍ في الطائفة المارونية لخدمته، من أبرزهم الوزير السابق سليمان فرنجية والرئيس السابق أميل لحود، والجنرال ميشال عون وصهره جبران باسيل، كما تمكّن من تطويع عددٍ من أقطاب الطائفة السّنيّة، بدءاً من الرئيس رفيق الحريري قبل اغتياله، وصولاً إلى وريث زعامته سعد الحريري، مروراً برئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وعبد الرحيم مراد وفيصل كرامي، ولم تسلم الطائفة الدرزية من بطشه وسلطانه، فجرى تطويع الأمير طلال إرسلان ومعه وئام وهاب، وجرت عمليات متلاحقة لتدجين الزعيم وليد جنبلاط، بعضها أصاب وبعضها أخفق، وهذه الإختراقات والتدخلات تتطلب جهوداً مُضنية، وعمليّاتٍ دقيقة، أين منها أعقد العمليات الجراحية الدقيقة، وهذه ليست بالطبع "تجليطات" يا سيد جبور.
من الأفضل أن نتوقف عند هذا الحدّ، ذلك أنّ حزّ الرقبة ما زال معمولاً به منذ أيام زياد بن أبيه والحجاج بن يوسف الثقفي والمغيرة بن شعبة، وحسن البنّا ومصطفى شكري وأسامة بن لادن وأبو بكر البغدادي، وحافظ الأسد ووريثه بشّار، ومحمد بن سلمان، وأسياد حزب الله الذين استعاضوا عن السّيف والمنشار، بكاتم الصوت، علّهُ يُفلح في كتم الأصوات المعارضة و"العميلة".