ممّا لفت نظري مؤخراً تلك الضجة التي أثيرت حول قيام إحدى كبريات المحلات التجارية بفصل موظفة بسبب حجابها، وسال حبرٌ وافٍ للدفاع عن تلك المرأة "المظلومة"، ونُصرةً للحرية الشخصية "المُقدّسة" التي انتهكتها المؤسسة التجارية، والتي لم تُراعها وتحترمها، وها هنا وقعت مُغالطات عِدّة، فهذه الحادثة لا تدخل في نطاق الحريات الشخصية التي يجب أن تُصان، ولا في نطاق التّعصب الطائفي وإثارة الفتن والنعرات، مهما اختلفت أشكالها، فمن البديهي، لا من أوجب الحقوق الشخصية أن تحتفظ المؤسسات العامة والخاصة والشركات التجارية، والهيئات العامة والخاصة بحقّها الطبيعي في اختيار  وفرض أنظمتها الخاصة بها( rules)، والتي تتوافق مع مصالحها وحُسن سير إدارتها وتنظيمها، فتطلب من موظفيها والعاملين عندها ما يلزم من إجراءات وتعليمات وتوجيهات: في اللباس والزّي والهيئة والمأكل والمشرب، والحضور والغياب، ناهيك عن الأجر والعُطل، فيحقّ للمدرسة مثلاً أن تفرض على طلابها بدلة رسمية مُحتشمة، كما يحقّ لمدرسةٍ أخرى أن تختار زيّاً آخر، ولنضرب مثلاً أكثر بساطة: في بعض الدول( الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً)، توضع تنظيمات لدخول حوض السباحة الخاص في المباني السكنية، تتعلق بمنع النساء من النزول إلى الحوض دون لبس "المايوه"، وكذلك بالنسبة للرجال، لا بدّ من لباس السروال القصير، كما يُمنع تناول الطعام والشراب، كما تُحظر السباحة بعد منتصف الليل، أو قبل طلوع الشمس الخ.

 


السيّدة التي فقدت عملها وأثارت هذه الضجة المفتعلة بسبب "حجابها" الخاص يُفترض بها أن تُحافظ على كافة التعاليم و"السُّنن" الإسلامية، كما تحافظ على حجابها، وعليها أن تتذكر دائماً أنّ هناك سُنن لا يمكن تجاوزها، فهي لا تستطيع أن تأكل ما يحلو لها، فهناك ما هو مُحرّم أكله، بل إنّ لباسها وتحيّتها وهندامها ولهجتها وسائر أشكال تعاملها مع جسدها ومع أجساد الآخرين تخضع لأحكام وسُنن مُعينة تُميّزها عن غيرها من أهل الأديان الأخرى، وهذه ألفبائيّة يعرفها كل من له شأن بالإناسة والناسوت، و عليها أن تدرك أنّها تنعم بحداثة وإن كانت مبتورة، فالإسلام المعاصر يختلف كثيراً عن إسلام الأوائل، أي أنّ المسلم المعاصر قد يعتبر نفسه مُسلماً رغم خرقه وتخلّيه عن عناصر رئيسيّة من "السُّنّة"، الأمر الذي لم يكن يصحّ إطلاقاً بالنسبة للمسلمين الأوائل، فالمسلم المعاصر يستطيع أن يلبس "سروالاً بدون إزار" ويظلّ رغم ذلك مُسلماً، لكن المرء لم يكن يستطيع ذلك إبان نشأة الجماعة الإسلامية الأولى( بل حتى بعد ذلك بمُدة طويلة)، إلاّ تحت طائلة اعتباره من "أهل الكتاب"، كما أنّ مسلم اليوم يستطيع أن يُطوّل شاربه وأن يظلّ مسلماً( كما هي حالتي اليوم)، لكنّه لو فعل ذلك أيام الصحابة لكان مُتشبّهاً بالنصارى واليهود، وبالتالي يكون قد خرج من الجماعة عملاً بالحديث "من لم يأخذ شاربه فليس منّا"، وقِس على ذلك.

 


يبقى أنّ السيدة " المغلوبة على أمرها" تستطيع في حال الضرورة القصوى، وإذا كانت في حاجة ماسّة لوظيفتها أن تتنازل ظرفيّاً عن حجابها( إضطراراً لا إثماً ولا بغياً)، ولها في السّلف الصالح أسوة حسنة، فهذا الفقيه أبو حازم بن دينار المدني، وهو من وجوه التابعين، وروى عنه مالك بن قيس وابن أبي ذئب ونُظراؤهما، يروي فيقول: بينما أنا أرمي الجمار في الحرم المكي، رأيتُ امرأةً سافرة من أحسن الناس وجهاً ( يبدو أنّه نظر إليها مليّاً) فقُلتُ لها: يا أمةَ الله، أما تتّقين الله، تُسفرين في هذا الموضع! فتَفتُنينَ الناس، قالت: أنا والله يا شيخ من اللواتي قال فيهنّ الشاعر:

 

من اللاتي لم يحجُجنَ يبغين حِسبةً

ولكن ليقْتُلنَ البريئ المُغفّلا.

فقلتُ: فإنّي أسألُ الله ان لا يُعذّب هذا الوجه بالنار.

توكّلي على الله سيدتي، وندعو لك بدعاء أبو حازم بن دينار المدني: عسى أن لا يُعذّبَ الله هذا الوجه بالنار.