على مسافة 4 أشهر من موعد فتح صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية، ما زالت المخاوف قائمة من ولادة مجموعة من الكتل النيابية «الصغيرة المفكّكة» التي لا يمكن ان تشكّل «أكثرية متضامنة» ما لم يوحّدها برنامج واضح يحيي أشكالاً من التحالفات السابقة. ولذلك سيبقى السؤال مطروحاً عن القوة التي يمكنها ان تولد «أكثرية تغييرية»، للتعاطي مع منظومة ما زال «الثنائي الشيعي المتماسك» متّهماً بحمايتها. وعليه ما الذي يوحي به هذا السيناريو؟

حتى الأمس القريب، ما زال الخبراء في الشؤون الإنتخابية يشكّكون بإمكان إجراء الانتخابات النيابية المقبلة في موعدها، إن بقيت الأجواء السياسية قائمة على ما هي عليه. وخصوصاً التأخير الحاصل في تشكيل التحالفات الكبرى التي توفّر المظلّة السياسية الضامنة لإجرائها في موعدها المحدّد. فالمعاينة الدقيقة للتشكيلات التي ستعبّر عنها اللوائح الانتخابية ما زالت قاصرة عن اعطاء صورة واضحة، بعد التفكّك الذي أصاب كثيراً من التحالفات السابقة من ضمن أبناء الصف الواحد، من دون ان تشهد البلاد الانقلابات التي كانت متوقعة قياساً على قراءة النتائج التي ادّت اليها انتفاضة 17 تشرين 2019، وما ادّى اليه تفجير 4 آب من تداعيات الحديث المتنامي عن أجواء لا بدّ من ان تنتهي الى تحالفات جديدة قادرة على تغيير المشهد السياسي في لبنان.

 

وما يؤدي الى هذه القراءة مردّه الى انّ ما يجري التحضير له في المطابخ الإنتخابية والكواليس الحزبية لـ «أحزاب المنظومة» ولدى أوساط «المعارضة» و»القوى التغييرية» لا يزال قاصراً عن إعطاء أي صورة واضحة تؤدي الى قراءة استباقية لشكل اللوائح الانتخابية التي تعطي صورة عن تركيبة المجلس الجديد. فقد اعتاد اللبنانيون على رسم صورة «تشبيهية» عنه، قلما تخطئ في تقديراتها إن كشفت المؤسسات التي امتهنت التقدير المسبق لمزاج اللبنانيين، تقارير صادقة ومنطقية انطلقت من استفتاء عادل ومتوازن لم يوضع لمصلحة هذه القوة او تلك.


حتى هذه اللحظة، وعلى وقع ما تركه قرار الرئيس سعد الحريري باعتكافه السياسي وعزوفه عن الترشح بإسم تيار «المستقبل»، لم يظهر الى العلن اي حلف انتخابي يمكن التوقف عنده لقراءة تأثيراته على مجرى العملية الانتخابية بصورة شاملة. فإلى «الثنائي الشيعي» الذي لم يتعرّض بعد الى أي اهتزاز خارج ما يجري في داخل طرفيه، نتيجة التجاذبات المحلية بوجوهها العائلية والمناطقية، حيث ما تقرّر إجراء تغيير في هويات «أحصنته» الانتخابية، فإنّ أي تحالف جديد لم يظهر بعد، باستثناء الحديث عن التحالف بين «الحزب التقدمي الاشتراكي» و»القوات اللبنانية» المحصور في نتائجه الانتخابية في دوائر محدودة جداً لا تصل الى عدد أصابع اليد الواحدة. لا بل فإنّ مثل هذا التحالف قد يقود طرفيه الى مواجهات غير محسوبة النتائج في دوائر اخرى، إن بقيت القطيعة قائمة مع حلفائهما السابقين. وما يُحكى عن تفاهمات تجري على «القطعة»، كما ظهر جلياً في القرارات التي اتُخذت حتى اليوم لدى أحزاب كانت على لائحة الحلفاء ومنها على الأقل حزبا «الطاشناق» و»المردة»، بعد المتغيّرات التي فرضها قرار «المستقبل»، والتي قد تغيّر في خريطة التوازنات في عدد من الدوائر الحساسة، كما هو متوقع في دوائر بيروت والمتن الشمالي والشمال وعكار وزحلة وغيرها، ولو بنسب اقل.

 

كذلك، فإنّ التحالفات التي يعتزم «التيار الوطني الحر» عقدها لم تخرج بعد عمّا هو تقليدي، وإن كان التحالف ما زال قائماً مع «حزب الله» في الدوائر المختلطة التي وفّرت للتيار عدداً من المقاعد النيابية في الانتخابات السابقة، فإنّ بعضها معرّض للاهتزاز الى حدّ احتمال حصول «نكسة حقيقية» بطريقة لا يمكن أحد ان يتجاهلها. فالمتغيّرات في المزاجين الشيعي والمسيحي لا يمكن اخفاؤها بسهولة ولا تجاهل انعكاساتها المحتملة. فالحديث عن تعاون التيار مع «شيعة الحركة» ما زال يخضع للتجاذبات المختلفة، على الرغم من اعتقاد البعض انّه امر حتمي لا يمكن تجاوزه. فالطرفان يعترفان في سرّهما والعلن بأنّ التحالف لن يكون كاملاً وناجزاً كما كان من قبل على الجبهتين، لألف سبب وسبب، وانّ هناك دوائر انتخابية قد تشذ وتعصي القرارات «الفوقية».


اما على جبهة «المعارضة» و»القوى التغييرية»، فلم تظهر بعد خريطة التحالفات التي تنبئ عن شكل العملية الانتخابية ونتائجها المحتملة. وفي اعتقاد كثر من الوجوه القيادية الذين قرّروا العزوف عن الترشح وخوض غمار العملية الانتخابية، فهم يعترفون بأنّ احزاب «المنظومة» قد نجحت في تفكيك بعض شبكاتهم بالإطراء والإغراء، الى درجة اجتذاب البعض منهم سعياً وراء استكمال الحصول على حاصل انتخابي إضافي. وبعدما تمكنوا من إقناع البعض بالابتعاد عن السباق الانتخابي والمضي في المواجهة التي كانوا يستعدون لخوض غمارها، فانّ ظهور لائحة طويلة بـ«أحصنة طروادة» لم يعد بعيداً، وهو ما سيؤدي الى نتائج كارثية ما لم تنجح بعض المساعي بترميم اكثر من تركيبة انتخابية يجري التحضير لها وفق قواعد علمية ومنطقية.

 

وعليه، يعترف آخرون ممن عبّروا عن «تواضع» غير مسبوق، بأنّهم قرّروا التضحية بمكامن القوة لديهم في اكثر من دائرة انتخابية، من أجل تركيب لوائح «القوى التغييرية» - مع اعترافهم المسبق بأنّها عملية ليست سهلة - وذلك من اجل إقناع بعض الأشخاص والوجوه الجديدة بأنّ أدوارهم لن تنتهي عند هذا الاستحقاق الانتخابي. كما انّ هناك مجالات واسعة ليلعبوا أدواراً بارزة في كثير من المحطات المقبلة، إن نجحت هذه القوى في عبور الاستحقاق الأصعب في هذه المرحلة بالذات.


على هذه الخلفيات، تترقب الأوساط السياسية والديبلوماسية - إن جرت العملية الانتخابية في موعدها - بروز مجموعة من الكتل النيابية «المشتتة» و»المفكّكة» التي يمكن أن تؤدي اليها التحالفات المحلية العشائرية والعائلية ورؤوس الأموال، حيث ما هي متوافرة. وهو ما يؤدي الى مجموعة من السيناريوهات المتناقضة، وإن كان هناك في بعض الدوائر الانتخابية ما يرضي اصحاب الدعوات الى تعزيز الديموقراطية في البلاد، من خلال بناء تحالفات مبنية على برامج محدّدة تشكّل قواسم مشتركة في ما بينهم، فإنّ بعضاً منها يعتقد انّ وجود مثل هذه الكتل الصغيرة والمشتتة قد يسهّل على الأكثرية الحالية، التي يتهم «الثنائي الشيعي» بحمايتها، الاحتفاظ بها لمجرد اجتذاب البعض منها الى مغريات السلطة.