هناك شيءٌ ما يتحرَّك إقليمياً ويتعلّق بصميم المأزق اللبناني، وهو سيظهر تباعاً في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، وربما يؤدي إلى إعادة رسمٍ كاملة لقواعد الاشتباك.

لم يكلِّف السعوديون والإماراتيون أنفسهم عناء المحاولة مجدداً مع لبنان. كانوا يدركون أن «حزب الله» سيقطع الطريق عليها، فيعطّلها في الشكل قبل المضمون. لذلك، تركوا للكويت «المعتدلة» أن تتكفَّل بالمهمَّة. فـ«الحزب» لا يملك المبرِّرات لتعطيلها في الشكل. وهكذا، هو يصبح أمام استحقاق مواجهتها صراحةً في المضمون. وهذا ما حصل.


 

إذاً، الخليجيون لم يكونوا في انتظار الردّ اللبناني، لأنهم يعرفونه مسبقاً. والخطوات التي ينوون تنفيذها جرى التوافق عليها قبل المبادرة الكويتية. والبنود الـ12 التي تتضمَّنها المبادرة هي عملياً دعوة إلى «حزب الله» كي يحلَّ تنظيمه العسكري ويتحوَّل حزباً سياسياً، على غرار الميليشيات الأخرى التي حُلَّت بعد الطائف. ولا يبدو «الحزب» مستعداً للقبول بهذا الطرح حالياً، لأن لا شيء يدفعه إلى هذا التنازل.

 

ولكن، هنا بيت القصيد. ثمة مَن يعتقد أن المناخات الإقليمية ربما تتغيَّر سريعاً. فالمواجهة التي بدأت تخوضها الإمارات (والسعودية ضمناً) مع محور إيران والحوثيين (و»حزب الله» ضمناً)، ربما تقلب المعادلات الإقليمية رأساً على عقب.

 

المواجهة الحوثية مع الإمارات ليست شأناً مُهمّاً فحسب، بل هي مصيرية. فالاستقرار الأمني ركيزة حيوية للإمارات ودول الخليج العربي عموماً، وهي لا تقبل باهتزازه مهما كلَّفها ذلك. وكذلك، باتت الأوراق الخليجية جزءاً من المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل، والولايات المتحدة وإسرائيل، من الخليج إلى العراق وسوريا ولبنان.

 

في المبادرة الخليجية ردٌّ واضح على إيران: تنفيذ بنود الطائف كافة (حلّ الميليشيات) والقرار 1559 (فرض سلطة الدولة وحلّ الميليشيات). أي ان الخليجيين يريدون اقتلاع إيران من القرار في بيروت. وخروج الرئيس سعد الحريري كان أحد الأجزاء غير المعلنة من «المبادرة الخليجية»، على ما يبدو.


 

والدليل إلى ذلك هو أن القوى السنّية التي كانت في اللحظات الأولى متجهة إلى أن تحذو حذو الحريري وتعتكف على طريقة المسيحيين في انتخابات 1992، عمدت كلها إلى الاستنفار للمعركة، ما يوحي بأن «الكلمة السرّ» هي خوض الانتخابات وإثبات الحضور.

 

إذاً، هناك أمر يجري تحضيره خليجياً، بناء على ما سينتج عن الانتخابات. إذا تحققت الغالبية في المجلس النيابي، سنّياً ومسيحياً ودرزياً، أي للمحور المقابل لـ»حزب الله»، فسيتكفَّل ذلك بالتقدُّم سريعاً نحو الهدف، لأنه سينتزع منه مشروعية السلطة بالوسائل الديموقراطية.

 

ولكن، إذا تعذّر تحقيق هذا الهدف بسبب تحكُّم «الحزب» وحلفائه بقانون الانتخابات والتحالفات فيها وآليات إجرائها، وسبب تشرذم خصومه، فسيقتضي الأمر تنفيذ خطة بديلة على الأرجح. وهنا يمكن التوقف ملياً عند زيارة الوفد الأميركي لمنطقة عكار.


 

يمكن أن يكون الهدف من الجولة هو استطلاع البيئة السنّية حول مدى تأثير «حزب الله» فيها، سواء بواسطة قوى سياسية سنّية أو بواسطة سرايا المقاومة. لكن زيارة الوفد تأتي في توقيت حسّاس، إذ يتم النقاش في واشنطن حول مشروع قرار في الكونغرس يقضي بإقامة منطقة لبنانية لا يكون فيها النفوذ لـ»حزب الله»، كمقدمة لتسوية لاحقة.


 

هنا يجدر التوقف عند ما كشفه وليد فارس، المستشار السابق للرئيس دونالد ترامب، عن أن الورقة الكويتية «تهيّئ لهذا المشروع»، ما يضع «الحزب» أمام خيارين: الصِدام أو الامتثال للقرار 1559، «وفق خطة أمنية أو مشروع مرحلي يشمل خلق منطقة خالية من الميليشيات من بيروت حتى عكار». وفي الأشهر الأخيرة، بذل المجلس العالمي لـ»ثورة الأرز» والاتحاد الماروني العالمي جهوداً حثيثة لشرح هذا المشروع في الأوساط ذات التأثير في واشنطن.

 

هل سيكون واقعياً ذهاب لبنان إلى هذا الخيار؟

 

الخبراء يعتقدون أن الأمر يتعلق بمناخات التفاوض بين إيران والقوى الدولية الكبرى في فيينا. وكان لافتاً أن واشنطن بدت مستعجلة للتوصل إلى نتيجة في المفاوضات، لأن التقارير الواردة إليها تفيد بأن طهران باتت أكثر قرباً من بناء قدراتها النووية العسكرية. ولذلك، دعتها إلى التفاوض المباشر.

 

لكن الإيرانيين لم يتجاوبوا مع الطرح الأميركي بسبب اعتقادهم أن الوقت ليس ضاغطاً عليهم، وأن إدارة الرئيس جو بايدن لا تملك أدوات الضغط الكافية عليهم. وتالياً، يمكن أن يواصلوا مناوراتهم لسنوات، وخلالها يوسّعون حدود نفوذهم في بلدان الشرق الأوسط، ولا سيما الخليج العربي.


 

كان واضحاً أن الخليجيين مستنفَرون لمواجهة من هذا النوع. فالرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوغ زار الإمارات معلناً تضامنه، وأمير قطر تميم بن حمد زار واشنطن، حيث أعلن بايدن أن الدولتين حليفتان.

 

إذا تقارب الأميركيون والإيرانيون، فسيكون ممكناً أن تنعكس التسوية الكبرى في شكل تسويات صغرى في دول المنطقة، ومنها لبنان. ولكن، حتى اليوم توحي المناخات بالمراوحة. وهذا يعني أن الوضع مرشّح في لبنان للذهاب إلى خيارات تصعيدية من الجانبين في الوقت الضائع.

 

سيكون صعباً على الأميركيين وحلفائهم إصدار أي قرار جديد عن مجلس الأمن يتعلق بلبنان، لأن «الفيتو» الذي ستمارسه الصين وروسيا سيكون حاسماً في التعطيل. لكن أحداً لا يستطيع منع الولايات المتحدة والحلفاء من اعتماد خيارات تحت عنوان التنفيذ المرحلي للقرارين 1559 و1701 اللذين حظيا بتغطية دولية شاملة عند صدورهما.

 

المهم في هذا الخيار هو أنه لا يقتضي تصادماً مع «حزب الله». فهو لن يفرض عليه التخلّي عن السلاح أو الخروج من مناطقه، ولكنه، سيطالبه بمنع تمدّد السلاح والنفوذ إلى خارج بيئته الحاضنة، أي البيئة التي يراد من الانتخابات أن تكشف أنها موالية له. وهذا أمر سهل التحقّق.


 

ولذلك، سيكون «الحزب» أمام خيارين: هل يهادن لئلّا يقع في صدام طائفي ومذهبي يفتح الباب لتدخلات خارجية؟ أو يخوض المواجهة لتكريس سيطرته على كامل الرقعة اللبنانية والقرار الرسمي؟ الخياران أحلاهما مُرّ. فماذا سيفعل «الحزب»؟