كثر في الآونة الأخيرة إستخدام مصطلح "الإحتلال الإيراني" في لبنان، وجرى الإعلان عن تأسيس "المجلس الوطني لرفع الإحتلال الإيراني"، وأكثرية من يستخدم هذا المصطلح ، كانوا قيادات في قوى ١٤ آذار، ويعتبرون أنفسهم طليعيين في مواجهة حزبالله ومشروعه، لكن نشاطهم يقتصر على  إصدار البيانات من أماكن بعيدة عن مناطق نفوذ حزب الله. يقال "قوة حزب الله في خصومه"، وهذه المقولة صحيحة إلى حد بعيد. لأن خصوم حزب الله بأكثريتهم لا يعرفون طبيعة هذا الحزب، وطريقة عمله، وعلاقته بجمهوره، وقدرته الفائقة على إستخدام أخطاء الخصوم في تعبئة جمهوره، وخلق سرديات وحبك خبريات من لدن هذه الأخطاء، لإبقاء هذا الجمهور أسير هذه السرديات وتلك الخبريات. كما أن خصوم حزب الله بأكثريتهم لا يجيدون مخاطبة الرأي العام الشيعي، ومنهم من يعتبر أن الشيعة كلهم في جيب حزب الله، أو مختطفين بقوة السلاح، وهناك من بعتبر بأن حزب الله هو الشيعة، والشيعة كلهم حزب الله، لكنهم يجهلون تاريخ هذه الشريحة من الشعب اللبناني، والتنوع الذي تكتنزه في الفكر والسياسة، وعلى الرغم من سطوة وجبروت وإمكانيات حزب الله، ما زال هذا التنوع موجوداً عند هذه الشريحة وبقوة، ونسبة الخارجين عن طاعة حزب الله، والرافضين لهيمنته ومشروعه ونمط عيشه ليست بقليلة، وتعبر عن نفسها بأكثر من مناسبة، وإن كانت هذه المعارضة في الوسط الشيعي مشرذمة وغير منظّمة بإطار يسمح لها بإيصال صوتها بشكل أفعل وأفضل. سبق لقوى ١٤ آذار أن تصدّت لمشروع حزب الله، وكانت المواجهة حامية، سقط فيها عشرات الشهداء، لكن نقطة ضعف قوى ١٤ آذار، أنها لم تستطع خرق البيئة الشيعية، مع أنها ضمّت في صفوفها الكثير من الشيعة، وذلك بسبب سوء تعاطيها مع المعارضين الشيعة، وفشلها الذريع بمخاطبة الرأي العام الشيعي. فأكثرية إعلام وأحزاب ١٤ آذار في تلك المرحلة، أرادوا إستخدام الشيعة المنضوين في هذا الفريق كشتّامين يصدحون على المنابر والشاشات ضد حزب الله، ولم يعطوا المساحة الكافية والضرورية لأصحاب الرأي المتزن والهادئ، من الذين يحملون خطاباً ومشروعاً سياسيين، ويجيدون مخاطبة الشيعة، وتقديم مشروع بديل عن مشروع حزب الله، دون إستفزازهم وإخافتهم وإدانتهم ووصمهم وسوقهم بعصا واحدة. إلى أن جاءت الإنتخابات النيابية في العام ٢٠٠٥، ليتفاجأ المعارضون الشيعة ومعهم جمهور ١٤ آذار العريض بولادة حلف رباعي طائفي مشؤوم بين أحزاب أساسية من ١٤ آذار والثنائي الشيعي، ما أدى إلى أخراجهم من المعادلة، وأضعف حضورهم وتأثيرهم في بيئتهم ومجتمعهم وحكم عليهم بالإعدام السياسي. وهذا الحلف، كان باكورة لجملة تنازلات وإخفاقات كانت نتيجتها الإكتئاب والتشرذم، وصولاً إلى إنفراط عقد تحالف ١٤ آذار، وذهاب أحزابها إلى تسويات مشينة ومذلة، توّجت بإنتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهوربة، وسلّمت لبنان لحزب الله على طبق من فضة.

 


اليوم، وبعد مرور كل هذه السنوات، ما زال الكثيرون ممن يتصدون لمواجهة مشروع حزب الله، يرتكبون نفس الأخطاء، ويعجزون عن خرق بيئته، ويفشلون بمخاطبة الرأي العام الشيعي، والنتيجة واحدة، تعاظم قوة حزب الله، وإستمرار إلتصاق جمهور واسع من الشيعة بمشروعه. 

 


وحدها ثورة ١٧ تشرين، نجحت في إحداث خرق في بيئة حزب الله، وخلقت حالة إعتراضية شيعية لها حيثية شعبية، وأوجدت مساحة للتعبير عن نفسها في عمق مناطق نفوذ الحزب في الجنوب والبقاع، فاستشعر الثنائي الشيعي بخطورة الوضع، وإستشرسوا في مواجهة الثورة، بالضرب والسحل والقتل وإقتلاع العيون، وحتى الآن ما زال حزب الله يشعر بالقلق من هذا الواقع الذي فرضته ١٧ تشرين، وهو يعلم علم اليقين بأن الثورة وإن خفت صوتها، وفرغت ساحاتها، لكن جذوتها باقية وبقوة في قلوب وعقول الناس الذين شاركوا فيها، وهو يخاف من أن يُترجم هذا الغضب المكتوم في صناديق الإقتراع، فعمد إلى خلق بعض المجموعات التي تلبس ثوب الثورة، بالإضافة إلى أحزاب قديمة شاركت في الثورة، وهي تدور في فلكه، وتمتثل لأوامره، وهو يعمل على شرذمة قوى الثورة، ومنعها من تشكيل لوائح موحدة، خوفاً من إحداث كوّة في جداره العازل. فحزب الله لا يحتمل أي خرق في بيئته وأمام جمهوره. وهنا تكمن أهمية توحيد أكبر عدد ممكن من مجموعات الثورة والأحزاب التغييرية المعارضة في لوائح موحدة لإحداث خرق ولو بسيط، يؤسس للتغيير المنشود. 

 


لم يسبق أن عرف لبنان قبل ثورة ١٧ تشرين، ثورة سياسية بهذا الحجم وهذا الإنتشار وهذا التنوع، ثورة على إمتداد الوطن من أقصاه إلى أقصاه، فيها اليمين واليسار، فيها الغني والفقير، ممتدة من قلب المدن الكبرى إلى الأطراف، ثورة تخطت كل خطوط تماس الحرب الأهلية، والخطوط الحمر الطائفية، ورفعت شعارات موحدة في كل ساحاتها، وعبّرت عن نفسها بوعي ومسؤولية، ورفعت العلم اللبناني وحده دون سواه، وهذا ما أخاف المنظومة الطائفية الحاكمة، ودفعها لإستخدام كل قوتها لإخماد هذه الثورة في مهدها، عبر إستحضار خطاب شدّ العصب الطائفي والمذهبي، والعودة إلى إصطفافات طائفية تنتمي إلى مرحلة ما قبل ١٧ تشرين ٢٠١٩، يسهل تطويقها وتطويعها والتحكم بها، وما زالت تحاول، وللأسف الشديد نجحت نسبياً في ذلك.

 


وبسبب هذا التنوع، وهذا الإنتشار الواسع، يصبح توحيد خطاب ومشروع ولوائح مجموعات وأحزاب الثورة أمر بغاية الصعوبة،  لكنه ليس مستحيلاً، والمطلوب هو إيجاد الحدّ الأدنى من المشتركات، وترك المواضيع الخلافية على طاولة التواصل والحوار، على أن لا تفسد في التوحّد قضية. 

 


نعم هناك خلاف كبير بين مجموعات الثورة وأحزابها حول التعاطي مع سلاح حزب الله، وهناك من يحاذر مقاربة هذه القضية، لكن الكل يعلم بأن حزب الله لا يملك سلاحه، ولا يملك قرار تسليمه أو الإحتفاظ به، ولا قرار إستخدامه في الداخل والخارج، لأن السلاح إيراني، والأمرة إيرانية، وما على حزب الله سوى الإلتزام بقرارات وتوجيهات الولي الفقيه وفعل ما يرضي مزاجه، كما عبّر السيد حسن نصرالله مؤخراً، وسلاح حزب الله مرتبط بشكل عضوي بالصراع الإقليمي والدولي الذي ينغمس فيه النظام الإيراني في طول المنطقة العربية وعرضها، وحلّ هذه القضية لا يكون إلاّ بتسوية أقليمية-دولية تُلزم إيران بتسليم هذا السلاح إلى الدولة اللبنانية أو إستعادته إلى إيران أو أي صيغة أخرى يتم الإتفاق عليها بين المحاور المتصارعة.

 


لكل طرف في ثورة ١٧ تشرين الحرية في صوغ الموقف الذي يناسبه من هذا السلاح، لكن لا يمكن وصول كل مكونات الثورة إلى الإتفاق على موقف موحّد من هذه القضية، وحزب الله سيكون المستفيد الأول إذا رفعت الثورة شعار نزع سلاح حزب الله، خاصةً في مناطق نفوذه، لأنه يعرف بأن هذا الشعار هو مجرد عنوان إنتخابي، لكنه سيذهب إلى إستخدامه وتضخيمه وحبك "مؤامرات كونية"  تحت عنوان إستهداف الشيعة من خلال نزع سلاح حزب الله، وذلك لتعبئة جمهوره وتخويفه وشد عصبه الطائفي، وهذا سيسهل عليه عملية تخوين كل الثوار، خاصةّ الشيعة منهم، وإعطاء نفسه الحق بالإعتداء عليهم ووصمهم بالعمالة دون حرج أو تردد. لكن إذا سحبنا هذا الشعار الخلافي، ليس تنازلاً عنه من قبل المقتنعين به، وإنما تسهيلاً لتوحيد أكبر عدد ممكن من قوى الثورة، والإكتفاء  بالتصويب على حزب الله بملفات الفساد، وحماية المنظومة الفاسدة، ومنع المحاسبة، والعبث بالقضاء، والإستقواء بالسلاح، والعجز عن وقف الإنهيار وهو في عزّ قوته، هذا سيحرج الحزب أمام جمهوره، وينزع من يده سيف التخوين والتخويف. والتجربة أثبتت بأنه ليس هناك من فعالية لمواجهة مشروع حزب الله، ما دامت الأكثرية الشيعية معه، وهو ضمنياً لا يكترث كثيراً للمعارضات الطائفية من خارج الطائفة الشيعية، لا بل يستفيد منها في الكثير من الأحيان للحفاظ على شدّ العصب الطائفي الذي يتغذى منه، وهو يعرف كيف يأتي بحلفاء من خارج الطائفة الشيعية، ويصنع منهم غطاءاً له، لكنه إذا فقد الأكثرية داخل الطائفة الشيعية، عندها يصبح مرغماً على تغيير سلوكه، وعندها فقط يصبح ممكناً وضع حدّ للتدخل الإيراني في لبنان، وسنكتشف حينها بأنه ليس في لبنان إحتلالاً إيرانياً، إنما جماعة من الشعب اللبناني، إرتضت لنفسها أن تكون أداةً للمشروع الإيراني، وعندما تفقد حاضنتها الشعبية، ستعود مرغمةً إلى لبنانيتها، أو تتلاشى رويداً رويداً مع تلاشى النفوذ الإيراني، وما يحدث في للعراق في هذه المرحلة، خير مثال على ذلك.