سأذكر لكم هذه الرواية العجيبة( لكنّها واقعية ومُوثّقة بالصوت والصورة) عن القضاء، ودوره الكبير والحاسم في إرساء العدل والمساواة، ورفع الظلم والطغيان، وإنفاذ القانون وإحقاق الحقّ وزهق الباطل، والضرب بيدٍ من حديد على أيدي المتنفذين والمُتسلطين، ولا جرَمَ فالتاريخ حافلٌ بمآثر القضاة الذين لا يرهبون سلطاناً، ولا يثنيهم عن إقامة الحقّ عائقٌ أو زاجر، وهذه الرواية التي أنقلها لكم اليوم، تحكي لنا عن رجلٍ عراقيٍّ أعدم ولدهُ الشاب، بإطلاق النار عليه عشية عودته من جبهة القتال، التي كانت مُستعرة بين العراق وإيران خلال ثمانينيات القرن الماضي، وفي اليوم التالي قام بدفن ولده وأشاع بين الناس أنّ ابنه فرّ من الخدمة العسكرية، وعندما أمره بالعودة "للجهاد" المُقدّس، رفض واستكبر وعاند، فقام بإطلاق النار عليه، وتعمّد إصابتهُ في مقتله، ووصل الأمر بالطبع إلى قائد القوات المسلحة العراقية، الرئيس الراحل صدام حسين، فالقتيل عسكري، فاستدعى الرئيس الوالدَ القاتل، وسمع روايته، وقام باستدعاء الوزراء وبعض القيادات السياسية والأمنية، ليشهدوا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم مأثرة هذا الرجل-البطل، ويتحدثوا عن شهامته وبطولته، وحميَّتهُ على دينه ووطنه، وعلى قيادة الرئيس صدام حسين الحكيمة والشجاعة بطبيعة الحال، وألقى صدام حسين خطاباً أشاد فيه بوطنية وعروبة هذا الرجل المِقدام، الذي ضحّى ب"فلذة كبده" في سبيل العراق ونصرة العراق، وقام بتعليق وشاحٍ على صدر الرجل، ولربما أجزل له العطاء، لِما كان يُعرف به صدام حسين من كرمٍ وبذخ، خاصة في مثل هذه المواقف الدعائية.

 


بعد فترة، تقدّم ذوو الشاب القتيل( أخواله وأعمامه) بدعوى جزائية أمام قاضٍ جزائي، رووا فيها بالأدلّة والوقائع وشهادة الشهود، بأنّ الشاب المغدور كان قد أعطى والده نقوداً لتدبير زواجه من فتاةٍ في الحيّ الذي يسكنه مع والده، فأخذ الوالد النقود، وتزوّج الفتاة ذاتها التي كان قد طلبها إبنُه، وعندما عاد الإبنُ في إجازته الشهرية، ليجد أنّ والده غدر به، وتزوّج من الفتاة التي أحبّها وارتضاها زوجةً له، فتشاجر مع والده، الذي كان قد أعدّ عدّة الخلاص منه، لئلّا يفتضح أمره، فأطلق النار عليه، وأرداهُ قتيلاً.

 


أصدر القاضي الذي عُرضت عليه القضية حُكماً بإعدام الرجل القاتل، وتولّى بنفسه الإشراف على ذلك، ووصل خبر إعدام الرجل إلى صدام حسين، فاستدعى القاضي على عجَل، فالأمر جلل، ويتعلق بمخالفة صريحة لأوامره ونواهيه، فسأله صدام على الفور: خالفت أمري وأعدمتَ من سبق لي وعفوتُ عنه، ألم تخف منّي ومن بطشي، فأجابه بحزمٍ وثبات، بلى خفتُ منك، ولكنّ خوفي من الله ومن ضميري غلب عليّ، وأنا مُقسمٌ على أداء الواجب وإقامة العدل، ووُضعت بين يديّ كافة الأدلّة والبراهين على إجرام الوالد القاتل.

 


قبلَ صدام حسين أعذار القاضي وأقرّهُ على عمله، وعندنا من لا يزال مُصرّاً على "قبع" القاضي طارق البيطار، ليفلُت القتلَة والمُقصّرون والفاسدون من العقاب، وليكونوا على استعدادٍ لإعداد مجازر جديدة والسهر على تنفيذها، طالما أنّ يد العدالة قاصرة عن محاسبتهم وعقابهم، وطالما سيف السلطان منصوبٌ فوق قوس العدالة.