هناك خيط رفيع يربط بين ثلاثة: توقيع لبنان اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي، توقيعه اتفاقاً مع إسرائيل في الناقورة ومباشرة الحصول على الغاز من مصر والكهرباء من الأردن. وفي تقدير الخبراء، أنّ أياً من الملفات الثلاثة لن يتحرَّك منفرداً. وهذا ما يعرفه المسؤولون اللبنانيون جيداً. ولذلك، هناك حراك صامت في الاتجاهات الثلاثة، خلف الضجيج الحاصل حول الموازنة وخطة النهوض واضطرابات الدولار.

ليس حتمياً أن يكون «الانفراج» في جلسات مجلس الوزراء ناتجاً من إشارات «انفراج» في فيينا، بمعزل عمّا إذا كانت المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة مقبلة فعلاً على اتفاق، أو على العودة إلى اتفاق 2015، كما كان قبل انسحاب دونالد ترامب منه.

ad

فواشنطن لن تبرم أي اتفاق مع إيران ما لم يأخذ في الاعتبار مصالح إسرائيل. وفي أي حال، لو تمّ إبرام أي اتفاق، فإسرائيل تستطيع تخريبه ما لم يُراعِ مصالحها.


لذلك، ليس حتمياً أنّ إيران أعطت الضوء الأخضر لـ»حزب الله» كي يسهّل الأمور في لبنان بسبب اقترابها من اتفاق مع الولايات المتحدة. وعلى العكس، في الوقت الضائع، ربما هي تمنحه هامشاً لتحقيق مكاسب موضعية، أو لتنفيذ مناورات تجعله في جهوزية لتحقيق المكاسب، عندما ينضج أوانها.


لذلك، تسارعت «الإيجابيات» في لبنان: الإفراج عن الانتخابات النيابية واجتماعات مجلس الوزراء والموازنة، بأي ثمن، تحضيراً لخطة التفاوض مع صندوق النقد الدولي. وفي الواقع، هذه الإيجابيات ليس لها أي مردود حقيقي.
فالانتخابات لن تبدّل توازنات السلطة، ومجلس الوزراء لن ينتج سوى موازنة مكرَّرة فارغة من أي إصلاح، وكل ما فيها ألاعيب جديدة لـ»تبليع» الناس عملية تذويب ودائعهم في لعبة التحاويل والتسعيرات بين الدولار والليرة، وتدفيعهم وحدهم ثمن الانهيار.


وأما «خطة النهوض» المبنية على موازنة مزوَّرة فستكون مزوّرة مثلها. وهذا ما يعرفه صندوق النقد. ولذلك، ستكون المفاوضات التي سيجريها وفده المنتظر في بيروت هذا الشهر مجرَّد اختبار لمعرفة مدى جدّية اللبنانيين. وأما حصول لبنان على «تغطية» الصندوق معنوياً ومادياً فلا يزال بعيداً.

ad

ويقول العارفون: في أحسن الحالات، سينصّ العقد بين لبنان والصندوق على قرضٍ بملياري دولار أو أكثر بقليل. وسيحصل لبنان على أول دفعة منه بعد إظهار «حُسن السلوك»، وتقارب الـ250 مليون دولار. وتليها دفعات متتالية، تكون مرهونة بتقديم لبنان شهادات حسن سلوك إضافية. وهكذا، يتقدَّم الصندوق توازياً مع تقدُّم الخطوات اللبنانية.

 

هذه الصورة توحي لكثيرين بالسخرية. فللتذكير، خلال العامين الفائتين، وفيما كانت منظومة السلطة تفاوض الصندوق لاستجداء هذه الملايين «افتراضية» أو المليار أو المليارين، كانت هي تهدر من احتياط مصرف لبنان نحو 8 مليارات دولار «حقيقية»، بالتهرّب من الإصلاح ومن ضوابط قانونية لـ»الكابيتال كونترول»، وإطلاق أيدي المهرّبين وتجّار الدولار.


ولأنّ صندوق النقد ليس جمعية خيرية، فإنّ «حُسن السلوك» الذي يطلبه سيكون في جوهره شروطاً سياسية تُفرَض على لبنان. ومطلب الإصلاح الذي تصرّ عليه القوى الدولية هو في الأساس مطلب سياسي، ويعني في الدرجة الأولى كشف مصادر تمويل «حزب الله» وأقنيته في مؤسسات الدولة وخارجها، ولا سيما منها القطاع المصرفي. و»الحزب» يدرك ذلك. ولهذا السبب هو يناور في الإصلاح والاستجابة لشروط صندوق النقد.

ad

ولكن، ليس في مصلحة إيران أن يصل لبنان إلى درجة من الانهيار لا رجعة فيها إلى الوراء. فلا أحد يضمن عواقب انفلات الوضع السياسي والاجتماعي والأمني، بأبعاده الطائفية والمذهبية. وأياً يكن لحلفائها من القوة، فإنّهم سيُصابون بالإحراج في التعاطي مع واقع مهترئ إلى هذا الحدّ، وسيصعب عليهم البقاء أقوياء على رأس الهرم فيه.


إذاً، الأمر يستأهل من إيران أن تفتح الباب لمناورات جديدة، على الأقل انتظاراً لما ستفرزه مفاوضات فيينا. واستطراداً، سيكون حلفاؤها جاهزين لمواكبة الملفين الآخرين: استجرار الطاقة من مصر والأردن واستئناف المفاوضات في الناقورة وتسريع إبرام اتفاق. وفي الملفين، كما ملف الصندوق، الراعي واحد هو الأميركي.


يعني ذلك أنّ إيران تتولّى مفاوضة الولايات المتحدة مباشرة في فيينا، وترسل حلفاءها اللبنانيين إلى مفاوضات مع حلفاء الولايات المتحدة في الصندوق والناقورة والاستجرار، ومع إسرائيل خصوصاً. وقريباً أيضاً سيقوم الموفد الأميركي عاموس هوكستاين بزيارته التي أرجأها أسابيع، إفساحاً في المجال لإنضاج «طبخة» معينة.


المتابعون يقولون: لا أحد يعرف متى تقع المفاجآت. فربما يتمّ حصول اتفاق بين لبنان وإسرائيل، بغطاء من «حزب الله»، قبل الاتفاق في فيينا أو بعده. وقد يجد «الحزب» مصلحة في الحصول من الأميركيين على اعتراف بنفوذه في لبنان، ضمن صياغة جديدة لتركيبة السلطة.

ad

وإذا حدث ذلك، فستتحقق إنجازات موازية على خط صندوق النقد واستجرار الطاقة، حيث لإسرائيل موقع حيوي. وستُفتَح حنفية الدعم الدولية على لبنان، مجدداً، وشيئاً فشيئاً.


لذلك، المرحلة القريبة، بين شباط وآذار، ستكون مفصلية في رسم الاتجاهات التي سيُقاد إليها لبنان، والتي تمّ التمهيد لها بكثير من العناية على ما يبدو. والانهيار الشامل هو حلقتها التنفيذية الأخيرة، لكن المدى الذي ستستغرقه لا يمكن لأحد تحديده.