عندما كانت الرصاصة صمت اللغة زمن الإحتلال، عرفته ناطقاً بها بسر الخائفين لا على أنفسهم بل على ما تبقى من حضور وشهادة ، فكتم فمه ككاتم صوت صُوّب الى صدر عدو وعميل تزيّن بزيّ المحتل على غفلة من بندقية مقاومة كانت تحرس بيوت أبوات الثورات .

 

يومها توقف كل شيء ، لم يبق ذكر سوى للذكر، فهل من مدّكر ؟ فكان الشيخ ذاكراً على جبل عامل للصلاة ، وما فاته من وضوء مقاتل . أدرك الفجر، ولم تفته صلاة الصبح في الطهرّة وعلي الطاهر، وكانت كتابة الدم أول الحرف الذي رسمه بريشة طائر كان ينام في ميدون على شجر الشهداء .

 


بعدها غاب كمشكاة في آخر الجمر ، كما يغيب القمر في محاق الشمس آخر سواع الليل ، فزاده البعد اقتراباً من وحشة جميلة لقلّة سالكيها ، فاعتمر الطريق المؤدي إلى الروح ، إلى النفس الأخير من الجسد . حيث تصطلي جمر الحياة برد الآخرة .

 


صحوته شاعراً فصيحاً يدندن القصيدة التي أتعبته وهويجمع أوزانها من بحور وأوتار على عزف قديم ، وما ساقته الصحراء من خيال وخيول ، فسوّقه الشعر أمره  ، وتساقيّ خمره ، فنبذ دم العنقود الأسود في دنّ ونهد .

 


أراه يعصر المعصرات الثجاج عند مرج البحرين فيلتقين كضفتين عاشقتين للماء والطين ، وما سوّق النبت الصغير من ظلّ وطلّ .. كما رأيته من قبل راهباً يلتذ بسويقاء المرق المدقوق من الحنطة والشعير، وقد صحا من سكرة الكأس نشواناً تدور في رأسه صورمن الكوابيس التي كانت أحلامه البكر، وقد حفّت بها عرائس من الشعر كانت تأتيه جُنّة كلما استفاق فيه جُنيّ مارد من مارج من نار ..

 


خلف الشعر سكنت الرواية بين أضلاع الكتابة المهجوسة بحداثة الخطابة الجديدة  ، وكان القلم مُترع مابين رنّة ومزنة ، فطفق يخصف من ورق الدفتر ما يستر عُريّ الحبر الذي تفوح منه روائح الدم فيزهر ولا يُثمر حتى يبقى مستعصياً على القطف ، ومتى قطفت الثمرة اجتثت شجرة الكتابة .. هكذا فعل شيخ الشعر والرواية فضل مخدر. بقي على جبله وجبّلته يطوي القصيدة في جُبته ومن أسافلها تناسل النص الروائي . نطق وتحرّر من قيود العمّة ، وفتح البرزخ المانع والفاصل ، وأزال الفواصل وأحجار النقاط ، وبنى بهما عمود قصيدته الفتيّة ، والتي تجلّت سيرة ذاتية ، ومسيرة ثقافية مزدانة بالعلم والأدب ، فلا عجب أن تُدمع عليه عيون الكلمات الحاملات لتابوت قامة من شغف ، وقد كفنته أوابد القوافي ، وأزفه الوقت لا آفنة الموت ، وحسب الشعر ما سوّده بياض الكفن ، وعزيف القبر آخر أصوات القصيدة ، وما أسفته الريح من تراب سيكون أوّل راق لرواية ستُكتب فصولها في مشهد آخر .