مع احتدام الأزمة اللبنانية الداخلية، والتي أودت بمعظم اللبنانيين تحت خطّ الفقر الموجع، وتكاد فيما لو استمرّت الطبقة السياسية الفاسدة التي تحكم هذا البلد المنكوب على فسادها وطغيانها، أن تودي بالبلد إلى تهديد النظام وزوال الكيان، لتتصاعد في الآونة الأخيرة وتيرة التركيز على أدوار كلٍّ من حزب الله والتيار الوطني الحر باعتبارهما علّة العِلل، وأنّ الإطاحة بهما، أو بأحدهما قد يقلبُ أمور البلد من حال الإنهيار الشامل إلى مرحلة التعافي، كما يميلُ الإعتقاد عند جمعٍ غفيرٍ من السياسيين والمسؤولين والمُحلّلين أنّه في حال غيّر حزب الله من ارتباطاته الإقليمية والدولية، وأقلع عن سياسة التّسلُّح والكردسة والمواجهات "العبثية"، تارةً مع الأمبريالية الأميركية، وطوراً مع أنظمة الخليج العربي( بعد انتهاء الصراع المفترض مع إسرائيل بعد القرار الدولي 1701)، وترافق ذلك مع تحرّر التيار الوطني الحر من هيمنة حزب الله عليه، ووقف سياسة المحاصصات الطائفية وتوزيع المغانم بين أركان النظام الفاسد، لتغيّرت أحوال البلاد والعباد.

 

 

إلاّ أنّ الواقع بات أعقد وأصعب من ذلك بكثير، وهو يُنذر بأخطارٍ داهمة، فالبلد وِفقَ " الأطُر الإجتماعية للمعرفة" بات يُعاني من معضلاتٍ مُستعصية، يلزمها عشرات العقود من الزمن لزحزحتها واستئصالها، وتكاد تتلخّص في حالة "الإنحطاط" أو الجمود الذي يعانيه البلد، وهذا الإنحطاط لا يُقرّرهُ شخصٌ حتى لو كان في حجم السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله، أو الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، الإنحطاط يُقرّرُهُ تيار تاريخي أو بُنية اجتماعية بأسرها، فإذا ما جمدت بُنية المجتمع أو تكلّست أو تراجعت، تكلّس الفكرُ فيه وتراجع، واذا ما ازدهرت،  ازدهر هذا الفكرُ وتألّق، المجتمع هو الذي يحسم الأمور وليس الفرد، كانت هذه الأطر الإجتماعية المُنفتحة والحيّة متوافرة في السنوات التي أعقبت استقلال لبنان عام ١٩٤٣، إبّان حكم الرؤساء بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو، حتى بدأت هذه الأطر الإجتماعية تتقلّص وتنتكس مع "الطفرة" العسكرية والأمنية لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بعد اتفاق القاهرة عام ١٩٦٨، ومنذ ذلك الحين واللبنانيون تائهون، مُقلّدون وتابعون، لا يمكنهم التّمييز بين "العقلنة" المُنيرة، والمُنقذة من الجهل والضلال والتّضليل الفكري/وبين العقلنة المُزيّفة للحقّ، المُقنّعة للواقع، المُؤيّدة للوعي الخاطئ، والمُؤسِّسة للمعارف الباطلة، المؤدية في نهاية الأمر إلى نفي الذات وإنكار شرف الإنسان وكرامته.

 


وعليه وعلى عوامل ظرفية أخرى لا يمكن حصرها وتفسيرها، أزمة لبنان بُنيويّة خطيرة، جدرانها سميكة وشائكة، لا يمكن اختراقها بسهولة، لا تكمن المشكلة كما سبق وقلنا في شخص السيد نصرالله أو من سيخلُفه، إنّها كامنة في بيئة حزب الله المُغلقة على التّخلّف والإنحطاط والجمود، كما أنّ المشكلة في الجانب المسيحي لا تكمن في شخص الجنرال عون أو من سيخلفه، بل هي كامنة في البيئة التي انتخبتهُ ثلاث مراتٍ متتالية، وابعدت رموز الانفتاح والحداثة والوطنية من طريقه، حتى اعتلى سدة الرئاسة الأولى.
قال الشاعر:

وقد يُهلكُ الإنسان كثرةُ ماله

كما يُذبحُ الطاووس من أجل ريشهِ.