بسرعة وليس بتسرّع أنهت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني تحقيقاتها في الأحداث الدموية التي شهدتها منطقة الطيونة.
 
السرد الواقعي للأحداث والمدعَّم بما سجّلته كاميرات المراقبة وإفادات الموقوفين والشهود، يعطي الإستنتاج بأنّ الاشتباك الذي حصل جاء وليدة ساعته ولم يكن مخططاً له مسبقاً. تلاسن وشتائم طالت رموزاً دينية، ومن ثم اشتباك بالأيدي والحجارة وبدء اعمال شغب فإطلاق نار ومن ثم اشتعال الوضع بالرصاص والقذائف الصاروخية. وهو ما يعني انّ اللجوء الى الشارع في ظلّ حال الفقر المدقع الذي يرفع مستوى الغضب عند الناس، إضافة الى حال الحقن السياسي وما ينتج من ذلك من تشنج، والإنغماس في لعبة شدّ العصب مع الدخول في مرحلة التحضير للانتخابات النيابية، كل ذلك يُنتج مزيجاً قاتلاً من الفوضى، ويدفع الامور للإنزلاق بسرعة في لعبة الدم، مع عدم إغفال الواقع الاقليمي الدقيق الذي تمرّ فيه المنطقة، على أبواب تغييرات في موازين القوى، تمهيداً لرسم خارطة نفوذ سياسي جديد. وإلّا، كيف يمكن تفسير الاشتباكات التي دارت في وادي الجاموس في عكار، والتي أدّت في نتيجتها الى حصيلة مؤلمة من الضحايا. ذلك أنّ طرفي القتال من الطائفة نفسها والمنطقة نفسها والاتجاه السياسي نفسه. ومن المفترض ان يحيل مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي الملف الى قاضي التحقيق، للشروع في المسار القانوني والمحاكمات. لكن ثمة اسئلة كثيرة لنقاط لا تزال غامضة، تفتح الباب لاستغلال سياسي ولو على حساب دماء سالت ومأساة حدثت.


 

أولى هذه الاسئلة تبدأ من القاضي عقيقي نفسه، الذي طلب إفادة رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وهو ما أوحى وكأنّ طلبه جاء استكمالاً لإفادات جرى الإدلاء بها خلال التحقيقات. وعندما سُئل القاضي عقيقي عن النقاط التي استند اليها لإصدار قراره، كان جوابه اولاً بسبب الكلام الذي أدلى به جعجع خلال مقابلته التلفزيونية، حين تحدث عن «نصف 7 ايار» جديد. واعتبره القاضي اعترافاً تلقائياً بالمشاركة في الاشتباك. وثانياً، بناءً على ما ورد في التحقيقات بحصول اتصال بين أحد افراد مجموعة «القوات» بمقر «القوات اللبنانية» في معراب في الليلة التي سبقت الأحداث الدامية.

 

لكن الجواب الذي تلقّاه القاضي عقيقي، بأنّ المقابلة تضمنت مواقف سياسية لا يمكن الإستناد اليها، أضف الى ذلك، انّ الاتصال الهاتفي بمقر فيه مئات الاشخاص لا يعني بالضرورة تواصلاً مع جعجع نفسه.

 

الديبلوماسيون الغربيون الذين تابعوا أحداث «الخميس الاسود» ومن ثم التحقيقات التي حصلت، باتوا على قناعة كاملة بأنّ هنالك من يعمل على الاستثمار السياسي ولو فوق الدماء التي سالت. ويعتقد هؤلاء، أنّ هنالك من دفع بالقاضي عقيقي في هذا الاتجاه، لحسابات تتعلق بالاستحقاقات التي ينتظرها لبنان. وقد يكون يريد استهداف من هو أبعد من جعجع، بحيث يصطاد العديد من العصافير في طلقة واحدة. انّها حسابات السلطة التي تعمي بصيرة أطراف الطبقة السياسية الحاكمة. و»يصفّر» الديبلوماسي الغربي مذهولاً من «القِطَب» المخفية التي تملأ هذا الملف، ويستتبع ذلك قائلاً: «لم أرَ طوال حياتي المهنية اسوأ من هذه الطبقة السياسية التي تحكمكم. فهي مستعدة لأي شيء لكي تبقى في السلطة».


 

ولم يكن هذا الديبلوماسي المشهود له بدهائه يستند الى هذه النقطة فقط، لا بل ثمة نقاط غامضة اخرى جعلته مرتاباً من كل ما حصل. وعلى سبيل المثال، تساءل بكثير من الشك عن مسار الأحداث.

 

فقال بأنّ تفاهمات كانت قد حصلت بين قيادة الجيش والثنائي الشيعي حول ضبط التظاهرة وتأمين كافة جوانبها. والواضح انّ الجيش كان قد ركّز اهتمامه على حماية قصر العدل ومنع حصول أي محاولة لخرقه، راسماً خطاً احمر حوله.

 

وفي ذلك المساء انتشرت رسائل صوتية عبر تطبيق «الواتس أب» حول الدعوة للاستنفار يميناً وشمالاً، ما ادّى الى حقن النفوس. لكن وبعد ساعات صدرت معلومات قيل إنّها من جهة رسمية، ذكرت انّه تمّ إلغاء التظاهرة من أساسها. وتساءل المصدر الديبلوماسي ما اذا كان الهدف من ذلك دفع الجيش اللبناني للتخفيف من اجراءاته، خصوصاً أنّ لانتقال القوى العسكرية كلفة مالية ليست متوفرة بسهولة، وسط الأزمة الخانقة التي تعيشها. لا بل الأهم، أنّ للتحكّم المروري 5 كاميرات مراقبة في منطقة الطيونة، كانت جميعها تعمل يوم الخميس باستثناء واحدة فقط كانت معطّلة، وهي التي كانت مخصّصة للشارع الذي وقعت فيه الحادثة. فأي مصادفة هي تلك التي حصلت؟ وهل كانت «يد» الشيطان تعمل في الخفاء؟



 

ويجزم الديبلوماسي «العتيق»، بأنّ آخر ما تريده واشنطن هو ضرب الاستقرار الامني في لبنان. وأنّها أعربت عن استيائها لما حصل. فهي مهتمة بإنجاز مهمة ترسيم الحدود البحرية، وهو ما يتطلب حداً أدنى من الاستقرار الأمني وايضاً السياسي، ما سيسمح للحكومة بمواكبة هذه المفاوضات. وايضاً لا تريد ابداً لا فرنسا ولا دول الاتحاد الاوروبي تفلّت الوضع الامني في لبنان، لأنّه سيُعرّض اوروبا لموجات متتالية من الهاربين. وايضاً حذّرت موسكو من توسع بيكار الفوضى في لبنان، لأنّه سيهدّد مصالحها في سوريا. وبالتالي هل هنالك من أطراف داخلية دفعت بدهاء باتجاه وضع البنزين بالقرب من النار لحسابات سياسية وغير خفية؟

 

لقد وجد الديبلوماسيون الغربيون غمزاً معبّراً في الخطاب المطول الذي ألقاه امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله. ويعتقد هؤلاء، أنّه رغم خسارته للساحة المسيحية، التي طالما عمل على مداراتها من خلال حليفه «التيار الوطني الحر»، فهو وجد نفسه مضطراً الى رفع سقف هجومه السياسي هرباً من احتكاكات قد تشهدها حديقته الخلفية.

 

وفي المقابل، هنالك على الساحة المسيحية من يحسب للانتخابات النيابية. وهنالك خصوصاً من يحسب للانتخابات الرئاسية. وهذا ما أنتج كل هذه الفوضى والخيوط المتشابكة. ومعه لا بدّ من طرح السؤال الأهم: هل ستتجدّد هذه المواجهات؟


 

لا يبدو أنّ احداً يستطيع ضمان عدم تكرار حوادث مشابهة طالما انّ الضرب بين اطراف السلطة في لبنان يحصل «تحت الزنار». لكن الأكيد أن لا مقومات موجودة لاتساع نطاق الفوضى والذهاب باتجاه حرب اهلية كما يستهوي ترداده منذ مدة غير قصيرة. والسؤال الثاني هو: هل ستحصل الانتخابات النيابية؟

 

رغم الشكوك التي بدأت تظهر، والتي تؤشر الى الواقع المأزوم للعديد من اطراف الطبقة السياسية وميلها للشغب، الّا أنّ القرار الخارجي لا يزال حاسماً بوجوب حصول هذه الانتخابات، تحت طائلة المحاسبة الدولية القاسية للذي سيعمد الى إرجائها. على الاقل هذا هو الموقف الدولي لغاية الآن. لكن الأجواء المحتقنة بحاجة الى تعديلها، اولاً بالكف عن استخدام لغة التجييش من دون مسؤولية. فظروف اللبنانيين القاسية والقاهرة لا تحتمل لعبة اللعب على الغرائز الى الحدّ الأقصى. وثانياً تستوجب إعادة الحياة الطبيعية الى الحكومة. وثالثاً احترام عمل القضاء في ملف انفجار المرفأ والملفات الاخرى، ولو من خلال تدوير الزوايا والتخفيف من بعض الحدّة الموجودة. ورابعاً، الرهان على إنجاز المفاوضات النووية بين الأميركيين والإيرانيين، ما سينعكس جواً إيجابياً على الواقع اللبناني. وخامساً، وخصوصاً، تأمين الحماية الشعبية للجيش اللبناني الذي يعمل وسط ظروف قاسية وصعبة وقاهرة. هو الجيش الذي يشكّل فعلاً الأمل الوحيد لاستعادة لبنان لدوره الطبيعي مستقبلاً، والأهم وقف «المكائد» التي يعمل على نصبها من هالهم و»قضّ مضجعهم» مدى الاحترام والتقدير الذي تكيله عواصم العالم كل يوم له.

 

في العام 1975 كان الباب الواسع لإدخال لبنان في الحرب الاهلية، السعي لفرط الجيش. وعندما حصل ذلك انهارت خلفه كل مؤسسات الدولة اللبنانية، ودخل لبنان في أتون الحرب، ولم تستقم الامور الاّ بتلزيم سوريا للبنان.

 

أما اليوم، فلقد انهارت كل مؤسسات الدولة اللبنانية، وبقي الجيش سليماً بالحدّ الأدنى المطلوب. وهو ما يعطي الامل بأنّ اعادة بناء الدولة ممكن حصوله استناداً على الجيش.

 

فحذارِ رقص السياسيين بين القبور وفوق الجثث.