يُجمع المراقبون والديبلوماسيون على أنّ تفاصيل الملف الحكومي اللبناني غير قابلة للتصديق، وفي رأي هؤلاء انّ رجال السلطة يجب ان يكونوا في خدمة الناس، لا العكس كما كان يحصل في العصور التي شهدت خضوع العبيد للأسياد.

شيء من هذا القبيل يحصل اليوم في لبنان، فبدل ان يهرع اعضاء واطراف الطبقة السياسية لوضع الخطط الطارئة وتقديم التضحيات المطلوبة للعمل على وقف الانهيار المريع الحاصل وحماية الناس من المآسي الصادمة، نجد انّ النزاع الوحيد الذي يسود اطراف السلطة في لبنان هو على طريقة توسيع حصصهم وضمان إمساكهم بمفاصل السلطة حاضراً ومستقبلاً، رغم ان الاحصاءات تشير الى ارتفاع نسبة الفقراء كلما تقدّم الوقت من دون البدء بمعالجة اسباب الانهيار الذي يضرب الاقتصاد اللبناني، ما يعني المزيد من التراجع للطبقة المتوسطة التي تكاد تضمحل. أضِف الى ذلك الاغلاق اليومي بسبب افلاس مؤسسات وشركات جديدة والهجرة الكثيفة للعائلات اللبنانية الى الخارج.

 

وسجّلت على سبيل المثال دوائر اوروبية تراجع عدد الطلاب وصلَ في بعض المدارس الى اكثر من ثلث الصف بسبب الهجرة الى الخارج. كلّ ذلك اضافة الى الفوضى الامنية الحياتية والمعيشية، لم يحرّك ضمائر المسؤولين اللبنانيين لإنتاج حكومة تتولى التنسيق مع صندوق النقد الدولي لتثبيت ركائز الخطة الانقاذية المطلوبة، فالمصالح الشخصية أقوى وأولى من السعي لحماية الناس من الاهوال التي يمرون بها. وبالتالي، باتت هذه الاوساط مقتنعة بأنّ أسباب الازمة الحكومية هي داخلية بنسبة عالية. وتقول هذه الاوساط انّ الفرنسيين الذين يواكبون هذا الملف عن قرب منذ اكثر من سنة راوَدتهم ظنون خلال الاشهر الماضية في أن ايران هي التي تقف خلف التعطيل الحكومي لأسباب تتعلق بالملفات الاقليمية المطروحة، مثل الملف النووي والمفاوضات الدائرة حوله.


الّا أن التواصل المستمر بين باريس وطهران، والذي تُوّج بالاتصال الهاتفي بين الرئيسين الفرنسي والايراني وموافقة الاخير على اصدار بيان واضح حول تشكيل الحكومة اللبنانية، أظهر ان ايران لا تقف خلف التعطيل الحاصل خصوصاً وإن تَعمّد البيان الايراني إغفال دور الرئيس اللبناني ميشال عون وهو حليف لإيران، في عملية التأليف عكس انزعاجاً ايرانياً من العقبات التي تمنع الولادة الحكومية.

 

وبدت باريس مقتنعة بأن العقبات التي تحول دون ولادة الحكومة داخلية بحتة ولها علاقة بالحصص الوزارية، وليس بالملفات الاقليمية. لكن ثمة فريقا فرنسيا يضع علامات استفهام حول اكتفاء «حزب الله» بإعلان موقفه المؤيد لولادة الحكومة ولكن من دون قيامه بالضغوط العملية المطلوبة لدفع الجميع الى تدوير الزوايا، خصوصاً في اتجاه حليفه رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل. لكن التفسيرات الموجودة في باريس هي أن مَردّ ذلك الى عدم نية «حزب الله» كسر الجرة نهائياً مع باسيل، وبالتالي مع رئيس الجمهورية، ما سيُفقِده الغطاء المسيحي الذي يستند اليه، وإنّ أقصى ما يمكن فعله قد فعله، رغم معرفته بحجم الاضرار التي تطاول بيئته الحاضنة، وهو ما ينعكس عليه سلباً.


في القراءة الغربية للعقبات التي تحول دون الولادة الحكومية تقديرات عدة أبرزها:
1 - ان الرئيس المكلف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي لا يُبدي حماسة كبيرة للدفع في اتجاه تعطيل القنابل المزروعة على درب الولادة الحكومية، وهو يعتمد سلوكاً بارداً، لأنه يريد ان تأتي حكومته بعد حصول استحقاقات موجّهة، كمثل رفع الدعم الكامل عن المحروقات بدل ان تنفجر هذه القنبلة في وجه حكومته وتجعل انطلاقتها صعبة من الاساس. واهن من الافضل للحكومة ان تكون قد تجاوزت كل الالغام الكبيرة والمطلوبة، وأن تتشكل لتبدأ مشوارها مع توزيع البطاقة التمويلية والاعداد لخطة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وان تبدأ بوضع خطط معالجة ازمة الكهرباء، وهو ما سيعطيها صورة افضل بكثير.
 

لكن المراقبين الغربيين لا يضعون نسبة مرتفعة لهذا الاحتمال كون ميقاتي يتصل في شكل دائم بالمسؤولين الفرنسيين ويضعهم في تفاصيل التطورات الحكومية، وهو ما يجعلهم يلقون اللوم في شكل اساسي على رئيس الجمهورية وفريقه السياسي.
2 - ان يكون الهدف الذي يسعى اليه رئيس الجمهورية هو دفع الامور الى خافة الهاوية لإجبار الاميركيين على الدخول على خط المفاوضات الحكومية ومقايضتهم في ملف العقوبات المفروضة على جبران باسيل، اي ان تكون الحكومة الجائزة البديلة لشطب اسم باسيل عن لائحة العقوبات.
وتكشف الاوساط المراقبة ان هذا الانطباع ساد بنحوٍ واسع لدى الاوروبيين والاميركيين ايضا، لذلك عمدت الادارة الاميركية الى توجيه رسائل عدة في هذا المضمار تشير الى ان ازالة العقوبات عن باسيل في اطار صفقة سياسية، تبقى مسألة غير مطروحة في الوقت الراهن. وتكشف ان باسيل نفسه تواصل منذ فترة مع ديبلوماسي اميركي عريق كان لا يزال يحتفظ بعلاقة جيدة معه. ونصحه الديبلوماسي الاميركي باعتماد خيار المسار القضائي عبر تكليف مكتب محاماة اميركي يتولى القيام بما يجب. اولاً، لأن عقوبات «قانون ماغنسكي» يختلف جذريا عن عقوبات قانون دعم الارهاب. ففي الاول يتضمن الملف وثائق واثباتات وافقت عليها اربع دوائر اميركية اساسية، وهو ما يستوجب مواجهتها ودحضها بالوثائق المثبتة ايضاً، اما قانون دعم الارهاب فإن الدوائر الاميركية لا تكشف عن مضمونه عادة وهو ما يسهل العودة عن عقوباته من خلال التفاهمات السياسية. واضافت هذه الاوساط أن المفاوضات الايرانية ـ الاميركية قد تشكل مناخاً مساعداً في هذا الاطار، وليس الملف الحكومي اللبناني، ولو أنه لا بد من الذهاب بداية في اتجاه المعالجة القانونية.
 

وتلفت الاوساط نفسها الى ان آخر الرسائل الاميركية في هذا الاطار جاءت مع تضمين وفد الكونغرس الاميركي الى لبنان أحد الخبراء القانونيين في مجال العقوبات، والذي كان سيتولى الاجابة بكلام تقني وقانوني لو سُئل عن العقوبات التي فُرضت على مسؤولين لبنانيين.
وتختم هذه الاوساط بالاشارة الى ان الرسائل الاميركية المختلفة التي أرسلتها واشنطن، وصلت الى باسيل بلا شك.
3 - اما التقدير الثالث والاخير وهو الأكثر رواجاً و»شهرة»، فهو يتعلق بشرط استحواذ باسيل على الثلث المعطل، وهو ما يعطل فعلياً الولادة الحكومية، رغم اعلانات عون المتكررة أنه لا يسعى الى هذا الثلث.
ويرفق أنصار هذه النظرية بكثير من الوقائع التي تؤيد وجهة نظرهم، كمثل رفض اسماء مسيحية تعتبر وازنة تم اختيارها سابقاً. ويعتبر هؤلاء ان حيازة الثلث المعطل تعني عملياً منح شريان حياة الحكومة لباسيل، ما سيجعل تأثيره في الحكومة في موازاة تأثير رئيسها. وهو ما سيمنحه قدرة واسعة لفرض التعيينات حيث هنالك الكثير من المراكز الشاغرة. وبالتالي، الاحكام اكثر على مفاصل الدولة في مرحلة الفراغ الرئاسي ما سيعطيه نفوذاً اكبر وتأثيراً أقوى على الانتخابات الرئاسية.


أضف الى ذلك السعي الى التأثير على الانتخابات النيابية، حتى ان وزير العدل سيكون له دور في الطعن بنتائج الانتخابات في حال سارت الامور في اتجاهات غير ملائمة كما تظهره استطلاعات الرأي المختلفة.

 

وتروي هذه الاوساط ان معلومات وصلتها حول اختبارات تُجرى للمُستوزرين بهدف تقييم مدى قدرتهم على تحمل الضغوط او الاغراءات من اجل الالتزام بالقرار الواحد مهما كان صعباً وغير شعبي. لكن هذه الاوساط المراقبة تبدي سخريتها من هذا التفكير، فهي تقول ان الرئيس حسان دياب اجرى اختبارات كثيرة قبل ان ينتقي فريقه، وكان السؤال الاول والمشترك لجميع من تقدموا يومها حول قدرة «ركابهم» على الصمود وعدم تقديم استقالاتهم. وبعد ان اعتقد انه اختار فريقا وزاريا صلبا، جاءت تداعيات انفجار المرفأ لتطيح بذا التقييم.


فاستقال اولاً وبادئ ذي بدء اقرب الوزراء اليه. كذلك ورغم ان وزير الطاقة ريمون غجر سمّاه باسيل عن الحقيبة الأكثر حساسية له، الا أن غجر اختلف مراراً مع باسيل حول السياسة المتبعة، فابتعد عنه ولو من دون الاعلان عن ذلك، فيما باسيل عمل على تطويقه من خلال التعاطي المباشر مع فريق الوزارة.


وعلى افتراض ان باسيل نجح في تعيين الثلث الوزاري المعطل، فإن الاوساط المراقبة تقول إن خطر سلاح العقوبات قد يظهر مجددا ما سيؤدي الى قلب الصورة تماماً، فهل سيقبل المجتمع الدولي من وزير العدل المقبل على سبيل المثال ضرب الانتخابات النيابية ونتائجها فقط لأنها لم تأتِ كما يتمنى البعض؟

 

وفي هذا الاطار عُلم انّ البيت الابيض طلب من فيكتوريا نولاند، المساعِدة السياسية لوزير الخارجية الاميركية، وضع تصور كامل عن لبنان والازمة التي يمر بها بالتعاون مع لجنتي العلاقات الخارجية في مجلسي النواب والشيوخ الاميركيين، على ان يجري رفع التقرير الى البيت الابيض. ويذكر ان نولاند التي خلفت ديفيد هيل في موقعه، كانت سابقاً تَشغل موقع سفيرة بلادها في حلف شمال الاطلسي.


في النهاية، إنه من السخافة جعل الناس والبلد يدفعون كل هذه الاثمان في مقابل اهداف وهمية وقابلة لأن تتبدد عند اول قرار كبير.


«ملحمة» تشكيل الحكومة والتي ضاعفت من آلام اللبنانيين ومآسيهم وزادت فتكاً بالطبقة المتوسطة وضربت اجيالاً من الطلاب بسبب انهيار القطاع التعليمي وتراجع القطاع الطبي، كل ذلك لا يستأهل بالتأكيد اهدافاً واطماعاً حكومية وهمية وغير واقعية.


وكل ذلك يؤكد مرة جديدة أن ثورة «17 تشرين» هي صنيعة السلطة السياسية، فهي من دفعت الناس الى الشارع وهي من تدفعهم مجددا الى ثورة «اقتراع» بعد نحو ثمانية اشهر.