عند انطلاقها، بدت «ثورة» 17 تشرين الأول 2019 وكأنّها آخر فرصة لابتكار حلّ ينقذ لبنان. وفيما كانت «الثورة» تتخبَّط في فشلها، جاءت كارثة 4 آب 2020 لتمنح لبنان فرصة نهوض جديدة، ولكن عبثاً. والآن، تتعمَّق كارثةٌ أكبر وأشمل وأخطر، هي الانهيار والسقوط والتحلُّل. وثمة من يعتقد أنّ «الثالثة» لا بدّ أن تُنتِج التسوية... ولكن أي تسوية؟
 
كانت واشنطن، بإدارة دونالد ترامب، الأكثر حماسة لـ«ثورة» 17 تشرين. وفي رؤيتها أنّ إسقاط منظومة السلطة الحالية، تحت ضغط الشارع المحتقن اجتماعياً، وتحت وطأة الفساد والفقر والجوع والقهر، سيُسقِط سيطرة «حزب الله» وإيران على القرار.


 

تعثرت هذه الرؤية. وبعد انفجار 4 آب، ظهرت فرنسا راعية رسمية للحل. وللصدفة التاريخية، تزامن ذلك مع مئوية لبنان الكبير. فاتخذ الحراك الفرنسي طابعاً رمزياً غير مسبوق. وارتكزت الفكرة الفرنسية إلى مبدأ استيعاب «حزب الله»، لأنّ مواجهته على طريقة ترامب ستبقى عقيمة.

 

لم يفهم اللبنانيون مغزى التحذيرات الفرنسية المتكرِّرة، على لسان ماكرون ووزير خارجيته جان إيف لودريان: «هذه فرصتكم لبقاء لبنان. فإذا فشلنا، سيكون البلد مُعرَّضاً للتحلّل والزوال». وعلى رغم ذلك، تمّ إفشال المبادرة الفرنسية.

 

في العام 2019، لم يرغب الأميركيون في مراعاة الخيار الفرنسي في لبنان، باعتباره مهادناً لإيران. لكنهم مع بايدن صاروا أكثر تفهماً له. واليوم، الأميركيون والفرنسيون، ومعهم العرب، يذهبون معاً إلى طرحٍ جديد- قديم ربما يذكّر بالطائف أو بالدوحة...

 

لقد فشل منحى المواجهة الأميركية لإنتاج حلّ، وفشل منحى الاستيعاب الفرنسي لإنتاج حالة وسطى ما بين الحل والتسوية المرحلية. وينزلق لبنان إلى المنحى الثالث، منحى التسوية المرحلية، حيث الحلّ بمعنى الثبات والديمومة بات أمراً بعيد المنال.


 

يعني ذلك انتقال المبادرة من أيدي الأميركيين والفرنسيين والعرب إلى شراكة جديدة، ظهر فيها على الأقل حتى الآن الرئيس السوري بشّار الأسد. ويبقى الدور الإيراني قيد الترصُّد.

 

ثمة مَن يعتقد أنّ الأميركيين يفضِّلون استدراج الأسد إلى لبنان ليكون ذلك إغراء له كي يبتعد عن طهران. لكن آخرين يستبعدون هذه الفرضية، ولا يرون أي مؤشر جدّي إلى طلاق سوري- إيراني في لبنان. والدليل أنّ الفرنسيين طلبوا للتوّ دعم إيران لتسهيل ولادة الحكومة.

 

إذاً، في هذه المرحلة، لا «الثورة» ولا الانفجار هما الوقود الذي سيُنضِج التسوية، بل الانهيار والفقر والجوع والقهر. ولذلك، إنّ الوقت الذي ستستغرقه صناعة التسوية مرهون بمدى قوة النار المشتعلة وقابلية عناصر التسوية للإنضاج.


 

هذا التشخيص للأزمة كافٍ لتبرير لماذا يتعثر تأليف الحكومة منذ 13 شهراً، من دون أسباب مقنعة، وكافٍ لتفسير لماذا تتنكَّر منظومة السلطة لأي خطوة إنقاذ اقتصادي أو مالي أو نقدي أو اجتماعي، على رغم أنّ الإنقاذ ممكن، وبدعمٍ من المجموعة العربية والمجتمع الدولي.

 

فمنظومة السلطة تتوزَّع الأدوار وتتبادل الاتهامات بتعقيدات تفصيلية في عملية التأليف، من باب ذرّ الرماد في العيون، وسعياً إلى إخفاء السبب الحقيقي للتعطيل، وهو: ممنوع إنتاج أي خطوة تريح الوضع حالياً، والمطلوب مزيد من الاهتراء والوجع والجوع وانهيار المؤسسات والأجهزة.


 

فحتى الطوابير يمكن تجنّبها على رغم أزمة الوقود، لكن المطلوب استمرارها إمعاناً في القهر. وحتى أزمات الدواء والخبز والماء والكهرباء مطلوب استمرارها بطريقة مذلَّة للمواطن ليبلغ درجة من الإنهاك تدفعه إلى الاستسلام فـ»يرفع العشرة» ويقبل بأي أمر يُفرض عليه.

 

فهل كان الناس سيتقبّلون مثلاً رفع أسعار البنزين من 25 ألف ليرة للصفيحة إلى 380 ألفاً- كما يُتوقع- ما لم يتمّ إذلالهم بالطوابير؟ وكذلك الخبز والدواء وفاتورة مولِّد الكهرباء وسوى ذلك؟ وهل كان الناس سيرضون بـ»الفُتات» من مدَّخراتهم في المصارف لو لم يتمّ إذلالهم بحبسها من اليوم الأول؟ وهل كان سينجح التهرُّب من كل أنواع التدقيق والتحقيق ومن «الكابيتال كونترول» القانوني و«الهيركات» الواضحة؟

 

واستطراداً، هل كان سيندفع لبنان الرسمي- وحتى بطلب أميركي- إلى أحضان الرئيس بشار الأسد، ويطلب منه النجدة بالكهرباء والغاز، وربما البنزين والمازوت الإيرانيين، لو انتصرت ثورة 17 تشرين في 2019 أو مبادرة ماكرون في 2020؟

 

وأساساً، هل كانت ستقع هذه الكارثة الاقتصادية والمالية والنقدية المريعة لو تمت الاستجابة لمتطلبات الإصلاح باكراً، وحصل لبنان على أموال «سيدر» ونجحت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي؟


 

لذلك، واضح أنّ فريق السلطة يتعمّد حالياً تعميق الاهتراء للوصول إلى فرض خيارات سياسية معينة. ومن السذاجة استمرار الإنجراف في موجات التفاؤل أو التشاؤم المخطَّط لها والموزّعة على الجمهور، والغرق في المواعيد الوهمية لتأليف الحكومة.

 

فالمطلوب هو إبقاء النار مشتعلة لإنضاج «تسوية ما» يجري التفكير فيها. ويُخشى أن يتمّ رفع درجة الحرارة إلى الحدّ الأقصى، لتسريع الإنضاج، ولو اقتضى ذلك احتراق لبنان. ولذلك، يصبح مبرَّراً القلق من خريف لبناني ملتهب، وبكل المعاني.