حدث ما توقَّعه الخبراء الجدِّيون، وما كان يكابر كثيرون بإنكار حدوثه بسبب الجَهل أو التجاهل: لبنان يتخلّى عن تحفظاته. وبكامل إرادته، يخطو الخطوة الأولى للعودة رسمياً إلى سوريا. بل هو يتوسَّل إلى الرئيس بشّار الأسد أن يتجاوب ويقبل بإنقاذه من الكارثة، عملياً... بأي ثمن. والآن، سيكون أمام الأسد وقتاً طويلاً جداً للتفكير في هذا الثمن وأساليب القبول. والبقية تأتي.
 
هل هناك تدبير مخططٌ له، جعل من دمشق وكأنّها في لحظة معينة ممرّاً إضطرارياً لبقاء لبنان على قيد الحياة، أم هي المصادفة؟ وأي انقلاب هذا الذي يحدث اليوم على خط بيروت - دمشق، وأي تحوُّلات إقليمية ودولية هي التي تسمح بحصوله؟


 

في الظاهر، بدا وكأنّ لبنان تُرِك حتى يكاد يموت، بفقدان كل أنواع الطاقة (من البنزين والمازوت والغاز إلى الكهرباء) لتأتيه الطاقة عبر سوريا: الإيرانيون سيأتون ببواخر البنزين والمازوت إلى مرفأ سوري، ومنه تُنقل بالصهاريج إلى لبنان. وكذلك، بدأت مفاوضات لبنانية - سورية لإمرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر عبر سوريا.

 

المثير طبعاً هو أنّ واشنطن هي التي دفعت إلى المفاوضات، وتخلّت ظرفياً عن عقوباتها وحصارها على نظام الأسد... من أجل لبنان، أو من أجل قطع الطريق على النفط الإيراني. وفي المقابل، بدا الأسد وكأنّه كان ينتظر هذا الموقف من واشنطن، ما يوحي أنّ شيئاً يحصل في الكواليس.

 

خصوم النظام السوري في لبنان الذين كان يفترض أن يعترضوا بقوة، ولو كلامياً، لم تُسمع منهم سوى أصوات اعتراض قليلة جداً ومنخفضة السقف. والسبب هو أنّ أحداً لا يملك القدرة على التصدّي لواشنطن ودمشق في آن معاً. وأما حلفاء دمشق فينتظرون هذه اللحظة منذ سنوات، ويستعدون لـ"تصحيح خلل" انسحاب قواتها وإعادة تفعيلها على الساحة اللبنانية.

 


ولكن، مَن سيجيب عن أسئلة حسّاسة مطروحة: هل سمحت واشنطن بانفتاح لبنان الرسمي على الأسد مقابل وعدٍ بمنع وصول البواخر الإيرانية إلى سوريا؟ وهل يكون هذا الأمر جزءاً من تفاهم إقليمي، يشمل حتى المملكة العربية السعودية وإسرائيل، لضبط التوسُّع الإيراني؟

 

هناك مَن يستبعد هذه الفرضية. فمن دون شك، الأسد حريص على تحالفه الاستراتيجي مع طهران. والإيرانيون ما زالوا منغمسين في القتال داخل سوريا دفاعاً عن نظامه. وهم ما زالوا ينشرون الخبراء والمقاتلين والأسلحة في مواقع حيوية هناك، بالتنسيق مع جيش الأسد. ومن غير المنطقي، وسط هذه المعطيات، أن يتصدّى الرئيس السوري لبواخر النفط الإيرانية.

 

إذاً، ماذا ستفعل واشنطن وحلفاؤها إذا إستقبل الأسد البواخر الموعودة وعمَد إلى نقلها برّاً إلى لبنان، فيما هو في الوقت نفسه منخرط في المفاوضات التي أرادها الأميركيون، من أجل استجرار الكهرباء والغاز من الأردن ومصر؟


 

وفق بعض المتابعين، مسألة البواخر، من أساسها، قد تكون مناورة اعتمدتها إيران ونجحت فيها، لدفع لبنان مجدداً إلى حضن الأسد، بتشجيع غربي. وبالنسبة إليها، وعلى رغم أنّ موسكو باتت صاحبة القرار الوازن في دمشق، فإنّ الأسد يبقى ركيزة إيرانية على المتوسط، شأنه شأن «حزب الله» في لبنان.


 

فإذا تمكّن الرئيس السوري من استعادة الرصيد الذي خسره في لبنان، العام 2005، سيكون ذلك انتصاراً لإيران أيضاً. ولذلك، في أي حال، يبدو الأسد على وشك تسجيل أرباحٍ بالنقاط في لبنان، سواء كانت مسألة البواخر جدّية أو مجرد مناورة.

 

ولكن، هناك مؤشرات أخرى تستدعي التأمل. فالمتابعون يسجّلون انعطافات واضحة في بعض البيئات اللبنانية نحو المناخ الذي كان قائماً قبل 2005. طبعاً، ليس المقصود هو عودة القوات السورية، بل الوزن الذي تتمتع به دمشق سياسياً في لبنان، مباشرة ومن خلال المحسوبين عليها.

 

وهنا يجدر التدقيق في أبعاد زيارة الوفد الدرزي لتهنئة الأسد بولايته الجديدة. فصحيح أنّ من البديهي أن يقوم وفد، على رأسه الوزيران السابقان، الحليفان، طلال إرسلان ووئام وهاب، بهذه الخطوة. لكن اللافت هو حجم الوفد الموسَّع، وما يُحكى عن أجواء تنسيق داخل الطائفة سبقت الخطوة. وفي الأيام الأخيرة، بدا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط حريصاً على العودة إلى التموضع الوسطي.

 

وعلى هامش زيارة الوفد، يُفترض التدقيق ملياً في حديث السفير السوري علي عبد الكريم علي عن تغيُّر في المناخ السياسي بين لبنان وسوريا. وفي هذه العبارة تأكيد واضح للترابط الوثيق بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي.


 

يعني ذلك أنّ خطوة لبنان، الذهاب إلى دمشق تحت عناوين اقتصادية، ستليها خطوات تحمل العناوين السياسية أيضاً. وغداً الأربعاء سينطلق البحث الرباعي في عمان (مصر والأردن وسوريا ولبنان) لاستجرار الطاقة. لكن السوريين سينطلقون منه لتذكير الجميع، ولبنان خصوصاً، بمطالبهم السياسية التي تراكمت على مدى سنوات. وبالتأكيد، لن يُمرِّر الأسد مطالب لبنان بسرعة وسهولة. وأمامه الوقت الكافي لقطف الثمار الاقتصادية لإمرار الغاز والكهرباء في أراضيه، بالمال أو بحصة من الإنتاج، وأيضاً لقطف الثمار السياسية في اللحظة اللبنانية الصعبة. وفي ألف باء المطالب تعويم اتفاقية التعاون والتنسيق التي أُبرمت في العام 1991.

 

والرسالة واضحة منذ اللحظة الأولى: اختيار الأمين العام للمجلس الأعلى نصري خوري لتلاوة البيان الرسمي. ويدرك الجميع، بمن فيهم السوريون، أنّ الاتفاقات التي تمّ إبرامها بين لبنان ودمشق، تحت غطاء التعاون والتنسيق، كانت إجمالاً راجحة لمصلحتهم. وهكذا، فإنّ لبنان يهرول طائعاً نحو مكانٍ يتكرَّر فيه كثير من مشاهد فيلم قديم.