راهنت قوى عربية ومحلية في أكثر من محطة ومناسبة ومفصل على فصل النظام السوري عن إيران، وبُذلت جهود وحصلت زيارات ولقاءات، ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، وهناك من يجدّد الرهان اليوم من منطلق انّ النظام السوري بين استمراره المرتبط بفك الربط مع طهران، وبين رحيله في حال إصراره على هذا الربط، سيختار الخيار الأول.

منشأ فكرة فصل دمشق عن طهران مردّه إلى ثلاثة أسباب أساسية: السبب الأول، انّ هزيمة طهران بالضربة القاضية صعبة وغير متوافرة، وترتبط بالسياسة الدولية والأميركية تحديداً؛ السبب الثاني، انّ الرهان على ثورة داخلية غير مضمون، ومن الصعب التكهُّن بحصوله ولا تحديد الوقت الذي يمكن ان يستغرقه، على رغم تململ الشعب الإيراني من نظام لا يوفِّر له مقومات الحياة الكريمة؛ السبب الثالث، انّ انتزاع الأوراق الإقليمية من طهران، على قاعدة التقدُّم بالنقاط، يبقى أفضل الخيارات، وفي طليعتها فصل سوريا عنها، باعتبار انّ هذا الفصل لوحده يسدِّد ثلاثة أهداف دفعة واحدة في المرمى الإيراني:


 

الهدف الأول، فصل سوريا أولاً كدور وتقاطع جغرافي وتشكّل مدخلاً لفصل دول أخرى، فضلاً عن وقف التمدّد الإيراني في العراق. كما انّ فصل سوريا يساهم في المساعدة على مزيد من التمايز العراقي عن إيران.

 

الهدف الثاني، تحوّل «حزب الله» إلى ورقة عسكرية ساقطة، واضطراره إلى الالتزام بسقف الدولة، كون سقوط الجسر السوري الذي يربط الضاحية بطهران يؤدي إلى نهاية مشروعه الثوري.

 

الهدف الثالث، إبعاد طهران عن القضية الفلسطينية، حيث انّه مع سقوط الجسر السوري تسقط الورقة الإيرانية الاستخدامية، إن على الخط الحدودي اللبناني- الإسرائيلي، أو داخل مناطق النفوذ الفلسطينية.

 

وانطلاقاً من السبب الأخير، تركّز الجهد على محاولة إغراء النظام السوري الذي يعاني من أوضاع مالية صعبة، وفقدان للدور الإقليمي على إثر خروجه من لبنان، ولكن كل هذه المساعي باءت بالفشل بسبب الارتباط العضوي للنظام السوري بالإيراني، إلى ان اندلعت الثورة السورية التي تمّ الرهان عليها لتغيير على أرض الواقع، عجزت عن تغييره المساعي الاحتوائية سياسياً، إلّا انّ استنفار طهران دفاعاً عن هذا النظام ومن ثم موسكو قطعا الطريق على هذا التغيير.


 

وفشل الثورة في قلب النظام لم يسمح للأخير بأن يستعيد وضعيته السياسية ما قبل هذه الثورة، فبقيت سوريا مقسّمة إلى مناطق نفوذ دولية وإقليمية، وتحوّل القرار الرسمي فيها إلى موسكو التي تُمسِك بالقرار الاستراتيجي للدولة السورية، على غرار إمساك النظام السوري بالقرار نفسه في لبنان إبّان فترة احتلاله لهذا البلد. وفي هذا التوقيت بالذات عاد النقاش حول الفكرة القديمة وما إذا كان بالإمكان تحقيق هذا الفصل، على قاعدة تخيير النظام بين استمراره وشرطه فك الترابط مع النظام الإيراني، وبين مواجهة مصيره والرحيل.

 

وقد راهن البعض في لبنان عن قناعة بإمكانية تحقيق هذا الفصل، وراح يتحدّث عن خطين واحد سوري والآخر إيراني، ويقدِّم الأمثلة وينطلق من القاعدة نفسها، انّ أولوية هذا النظام ستكون حفظ رأسه، كونه لن يبدّي مصلحة غيره على مصلحته، فيما تعامل البعض الآخر مع هذا الموضوع من زاوية الاستثمار السياسي ومحاولة إيجاد شرخ وتمايز بالعلاقة، بمجرّد تسليط الضوء على الجانب المصلحي للنظام السوري.


 

ولكن في واقع الأمور، انّ ما يربط النظام السوري بالنظام الإيراني أكبر وأوثق وأعمق من ان يتمّ فكه، خصوصاً انّ العلاقة بينهما بدأت منذ بداية الثورة الإيرانية، ولكن مع فارق انّ الرئيس حافظ الأسد نجح في المزاوجة بين علاقاته العربية وتحالفه مع إيران، فيما لم ينجح نجله في إدارة هذا الملف بالطريقة نفسها، فوضع نفسه كلياً في الحضن الإيراني، ودخل في تناقض ما بعده تناقض مع الأنظمة العربية، إلّا انّ هذا الوضع لن يدفعه إلى تغيير سياسته لثلاثة اعتبارات أساسية:


 

الاعتبار الأول، لأنّ العلاقة التحالفية مع إيران وثيقة جداً وترتكز على أبعاد دينية أقلوية، وهي علاقة غير مستجدة إنما قديمة ومتجذرة، وقائمة على قناعات مشتركة وليس من باب المصلحة السياسية فحسب.

 

الاعتبار الثاني، لأنّ النظام السوري يشكّل جزءاً لا يتجزأ من المحور الإيراني ومن مشروع مشترك على مستوى المنطقة، وقراره في هذا الشأن ليس بيده إنما يتركه لتقدير القيادة الإيرانية، فإما يحصل التغيير بقرار إيراني، وإما انّ الأمور ستبقى على المنوال نفسه.

 

الاعتبار الثالث، لأنّه لولا المؤازرة الإيرانية السريعة للنظام السوري لكان سقط بالضربة القاضية، وبالتالي هو مدين للنظام الإيراني باستمراره على قيد الحياة، علاوة على قناعته العميقة وعلاقته العضوية بنظام الملالي.

 

وعليه، من الخطأ تماماً مواصلة الرهان على فصل النظام السوري عن إيران، وكل هذه الرهانات مضيعة للوقت، وأي رهان يجب ان يكون إما على رحيل هذا النظام، الذي في تكوينه وعقيدته وتفكيره يستحيل ان يبدِّل في سياساته وتموضعه، وإما إخضاعه لميزان قوى لا يتيح له إحياء أدواره السابقة ومنعه من أي تدخُّل في شؤون غيره، وإما دخول إيران في تسوية مع أميركا، تقضي بتغيير دورها في المنطقة، فيتحوّل الدور السوري تلقائياً، لأنّ النظام السوري مُلحق بالنظام الإيراني.


 

وفي كل هذا المشهد أتت زيارة الوفد الوزاري اللبناني إلى دمشق، في أوّل زيارة رسمية حكومية رفيعة المستوى إلى سوريا منذ اندلاع الحرب السورية منذ عشر سنوات، بحجة البحث في استجرار الطاقة والغاز من مصر والأردن عبر سوريا وصولاً إلى شمال لبنان، وهذه الزيارة لا علاقة لها باستجرار الغاز ولا غيره، إنما تندرج في سياق الاستدعاء والإحضار والجلب، لأهداف محض سياسية وتطبيعية تحديداً، حيث انّ هذا النظام المعزول من شعبه ومن الخارج، لم يوفِّر مناسبة ولا فرصة للتطبيع مع لبنان، باعتبار انّه غير قادر على التطبيع مع اي دولة عربية أخرى، فيما الدولة الوحيدة القادر على التطبيع معها هي الدولة اللبنانية، بفعل خضوعها لنفوذ حليفه «حزب الله»، فضلاً عن سعي النظام المتواصل لاستعادة نفوذه بعد خروج جيشه في العام 2005.

 

والملف الأبرز الذي استخدمه كشماعة وحجة للتطبيع، كان ملف النازحين الذين لا يريد إعادتهم إلى سوريا، لأنّه لو كان في هذا الوارد كان فتح الحدود أمام عودتهم من دون شروط، هذه الحدود المفتوحة فقط للتهريب، ولكن كل هدفه من هذا الملف، الذي يثير نقمة اللبنانيين بسبب الأزمة المالية الخانقة، جلب لبنان الرسمي إلى طاولة التفاوض السورية، من أجل التقاط الصورة لا أكثر ولا أقل، وما عجز عنه في هذا الملف وغيره، نجح فيه في ملف استجرار الغاز، بحجة حاجة اللبنانيين إلى هذه المادة، وفي لحظة انهيارية في لبنان وحكومة تصريف أعمال.


 

وكان الحري برئيس الجمهورية، بدلاً من فتح ملفات خلافية حتى العظم بين اللبنانيين وفي طليعتها العلاقة مع النظام السوري، الذي يُصنَّف من قِبل فئة واسعة منهم بالعدو، بسبب ارتكاباته في الحرب وفي حقبة احتلاله للبنان والمرحلة التي تلت خروجه منه مع تفجيرات ميشال سماحة وتفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس واتهامه باغتيالات ومحاولات اغتيال طالت شخصيات سيادية عدة وعدم كشفه مصير المعتقلين في سجونه ورفضه الاعتراف بسيادة لبنان والتدخّل بشؤونه، كما رفضه تقديم الأوراق اللازمة لإثبات سورية مزارع شبعا او لبنانيتها، وبالتالي لكل هذه الأسباب وغيرها، كان الحري بالرئيس ميشال عون ان يشكّل الحكومة بدلاً من عرقلة تأليفها، وإخراج لبنان من أزمته، بدلاً من مراكمة الأزمات. ولكن قد يكون أحد أهداف الزيارة تعميم التأزُّم بدلاً من حلحلة الأوضاع لأهداف العهد المعلومة.

 

فلا داعٍ لأي تفاوض لبناني-سوري رسمي من أجل استجرار الغاز، الذي لا يخرج عن السياق التقني المعمول به منذ عقد إلى اليوم، لأنّ الاستجرار لا يختلف عن الترانزيت والتنسيق الإداري والأمني القائم، كما انّ الطرف المولج بالتفاوض هو مصر والأردن لا لبنان، فيما توقيت إنجاز هذا المشروع ما زال مبهماً، إلّا انّ الهدف كان وما زال التطبيع. ولكن ووفق القاعدة التي قيلت قديماً بأنّ السلام مع إسرائيل هو سلام الأنظمة لا الشعوب، فإنّ التطبيع مع النظام السوري هو التطبيع الرسمي لا الشعبي، إلى حين يستعيد فيها لبنان الرسمي تمثيله الفعلي للشعب اللبناني ويُفكّ أسره، من أجل ان يقول كلمته في النظام الذي أساء وما زال للبنان واللبنانيين.