لا يمكن أي متابع لمسلسل الأحداث في لبنان سوى ان يستذكر ايام «فجر الجرود» التي شهدها لبنان (19 - 30 آب 2017) وانتهت بالقضاء على الزمر المسلحة، ومهما كانت الدروس العسكرية التي استُقيت منها، مُنع الجيش من الاحتفال بانتصاره لمصلحة محور آخر. وقبل سنة من اليوم أُطلقت عملية تشكيل الحكومة ولم تنتهِ بعد، والاخطر انّ الإحتفال بولادتها بعيد، ان لم يكن ممنوعاً. فلماذا المقارنة؟
 
قد يُفاجأ البعض بالمقارنة الممكنة بين ما رافق عملية «فجر الجرود» و»فجر تشكيل الحكومة»، وما خلا الفوارق في شكل العمليتين ومضمونهما، بين كون الاولى عملية عسكرية وميدانية، والثانية دستورية وسياسية، وقد لا تلتقيان في اي مجال او زاوية أخرى، سوى في توقيت انطلاقتهما في الثلث الأخير من آب، وبفارق ثلاث سنوات ما بينهما.


 

إن عاد اللبنانيون في الذاكرة اربع سنوات الى الوراء، لا بدّ انّهم يستذكرون صباح ذلك السبت في التاسع عشر من آب، عندما اعلن قائد الجيش العماد جوزف عون، انّه «بإسم لبنان، والعسكريين المختطفين، ودماء الشهداء الأبرار، وبإسم أبطال الجيش اللبناني العظيم»، أُطلق عملية «فجر الجرود». وحُدّدت المهمة «مهاجمة إرهابيي «الدولة الإسلامية في سوريا والعراق» («داعش») في جرود رأس بعلبك ـ القاع، وتدميرهم، لاستعادة الأرض والانتشار على الحدود». وبالعودة عاماً الى الوراء، يمكن القول، انّ استقالة رئيس حكومة «مواجهة التحدّيات» الدكتور حسان دياب فرضت على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بعد قبول استقالتها وتكليفها مهمّة تصريف الاعمال، الدعوة الى الاستشارات النيابية الملزمة، من اجل تسمية من يُكلّف مهمة تشكيل الحكومة العتيدة.

 

وإن أُريد لهذه المهمة الهادفة الى تشكيل حكومة جديدة أسباباً موجبة كتلك التي قادت الى «فجر الجرود»، لقيل: «بإسم لبنان الجريح والمنكوب، وبإسم مئات الضحايا وآلاف الجرحى والمتضررين في أملاكهم وجنى العمر جراء تفجير مرفأ بيروت، وبإسم العاصمة المدمّرة، وبإسم ضحايا انفجار التليل، وبإسم ضحايا ومصابي «جائحة كورونا»، وبإسم ملايين اللبنانيين ومن المقيمين على الأراضي اللبنانية الذين تضرّروا من انهيار القطاع المصرفي وتردّدات الأزمة النقدية والمالية التي عصفت بالبلاد والعباد، نعلن بدء العمل على تشكيل حكومة جديدة، وحُدّدت مهمتها «توفير الخروج من مسلسل الانهيارات التي سقطت على اللبنانيين، ومن أجل استعادة الثقة الداخلية والخارجية بالدولة اللبنانية ومؤسساتها وقطاعها المصرفي، وصولاً الى مرحلة الإنقاذ والتعافي».


 

وانطلاقاً من هذه المعادلة الإفتراضية، يمكن الانتقال الى الحديث تفصيلاً عن الظروف التي حالت الى اليوم دون تشكيل الحكومة، بعد مرور عام وثمانية عشرة يوماً على استقالة الحكومة السابقة، وسقوط تكليفين للسفير مصطفى أديب والرئيس سعد الحريري، قبل التكليف الثالث للرئيس نجيب ميقاتي، الذي ما زال متعثراً بسبب مجموعة من العِقَد التي يتبين يوماً بعد يوم انّها هي نفسها التي نسفت مهمتي اديب والحريري، وقد استُنسخت مجدداً مع ميقاتي. وإن دخل احدهم في التفاصيل ومحاولة مقاربة الاسباب التي أعاقت هذه الولادة حتى اليوم، لا بدّ من التوقف عند الملاحظات المتبادلة، وابرزها ما يمكن اختصاره بنظريتين:

 

- يتهم فريق رئيس الجمهورية ميقاتي ما اتهم به الحريري من قبل. فقيل نقلاً عن اوساط بعبدا، بالإضافة الى وجود من يمنع ميقاتي من التأليف، انّ تشكيلته إعادت النظر في تفاهمات سابقة حول توزيع الحقائب والحصص المذهبية كما في الأسماء. وهو أمر ترجمه في اعادة توزيع الحقائب في نيابة رئاسة الحكومة ووزارات الدفاع والشؤون الاجتماعية والاقتصاد والصناعة والاتصالات والطاقة والعدل، وأعطى لتيار»المردة» وزيرين مارونيين من خارج زغرتا، والأخطر انّهما من كسروان، استعداداً للمعركة الانتخابية النيابية المقبلة فيها، عدا عن المعلومات التي تسرّبت من انّ ميقاتي لم يناقش لا «المردة» ولا الحزب «السوري القومي الإجتماعي» ولا «الطاشناق» ولا «الثنائي الشيعي» في حقائبهم وأسماء وزرائهم، كما يفعل في محاولة فرض شروطه على الوزراء المسيحيين الذي يختارهم رئيس الجمهورية.


 

- وفي المقابل، تتهم اوساط «نادي رؤساء الحكومات السابقين»، ومن ضمنهم ميقاتي، عون بالسعي مجدداً الى «الثلث المعطل» بأساليب مختلفة لشل الحكومة ساعة أراد. فهو يريد ذلك من خلال احتكاره التمثيل المسيحي بفريق من مستشاريه منذ عودته الى بيروت العام 2005، وبمن يسمّيهم رئيس «التيار الوطني الحر» من مساعديه وأصدقائه «المغفلين»، في وقت لم يشارك التيار في تسميته رئيساً مكلفاً، ولا يريد منحه الثقة، وهو أمر لم يحصل في تاريخ الحكومات السابقة. ويُضاف الى هذه الملاحظات اخرى، بدأت تتسرّب في الأيام القليلة الماضية، والتي عكستها الخلافات على بعض الحقائب السيادية والخدماتية واسماء الوزراء، جراء اعادة تمسّكه بالتفسير الدستوري الذي جاهر به الحريري منذ بداية الطريق، وترجمه في تشكيلة 9 كانون الأول العام الماضي، والتي لم يشأ اعادة النظر فيها أو تكرار التجربة، فلم تر النور.

 

وفي المنطق المتنامي على الساحة السنّية، التشديد على حق الرئيس المكلّف في تشكيل الحكومة بمبادرة منه، وانّ على رئيس الجمهورية ان يراعي هذا الدور الدستوري استناداً الى مقولة سياسية تقول انّها «حكومة ميقاتي» كما قيل من قبل انّها «حكومة دياب» أو «حكومة الحريري»، فلم يُقال يوماً انّها «حكومة عون» او اي رئيس سابق للجمهورية. فرئيس الحكومة اياً كان، هو من يتحمّل تبعات أفعال حكومته والمسؤوليات، سواء نجحت او فشلت، وهو من سيدفع الثمن عند اي حدث جلل، كتفجير مرفأ بيروت مثلاً. والدليل الساطع الذي لم ينساه أحد بعد، يكمن في تجربة حكومة دياب الذي دفع الثمن وحيداً بعد ايام ستة على تفجير المرفأ، بعدما تبرأوا منه. علماً انّ المسؤولية في ما حصل يمكن ان تترتب على كل منظومة الحكم والمؤسسات العسكرية والامنية والادارية والمالية، التي يمكن ان تكون بإهمالها او تجاهلها لمخاطر ما في العنبر 12 من مواد متفجرة، ادّى تفجيرها بأي شكل من الاشكال الى النكبة التي وقعت. وعليه، بات دياب في موقع الزاوية الأضعف في مثلث «سيبة السلطات الثلاثية».


 

عند هذه الملاحظات يتوقف كثير مما هو قائم من عِقد تحول دون تشكيل الحكومة الجديدة، ومن دون التنكّر الى العوامل الخارجية التي تؤثر في عملية التشكيل، وإن لم يعترف بها البعض المعني بعملية التأليف ومضيهم في تجاهل ما يجري في المنطقة، وسعيهم الى استثماره في الداخل، تبدو المساعي الحكومية مجمّدة الى اجل غير مسمّى، قد يطول او يقصر الى درجة يُقال فيها انّ فريقاً يريد حكومة لمعالجة ما يجري ووقف الانهيارات، فيما هاجس آخرين يطاول ما بعد التشكيل وحتى نهاية العهد وربما تطاول العهد المقبل. ولذلك كله، فإنّ الإنتصار في تشكيل الحكومة ممنوع كما كان الإحتفال بالانتصار في نهاية عملية «فجر الجرود». فالتاريخ يعيد نفسه بسرعة قياسية ان لم نتعلم من دروسه.