بين اجتياح روسي لأفغانستان 1979 وانسحابه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي 1989 ونشوب حرب اهلية بين المجموعات الافغانية، واعلان حركة طالبان  قيام امارتها الاسلامية، بأمرة الملا عمر. ثم الغزو الاميركي اثرهجمات 11 ايلول 2001  الذي افضى الى طرد الحركة،  واقتصر حضورها في اطراف الحدود. تعود افغانستان بعد مرور ما يقرب نصف قرن الى نقطة البداية، لتتصدر المشهد بعد الانسحاب الاميركي وعودة "طالبان" مجدداً لتسيطرعلى البلاد، متحولة من امارة الى دولة، مع تغير لافت يحمل اعترافاً وتشريعاً ظاهراً او مضمراً بها، من دول كبرى معنية مباشرة بمستقبل هذه المنطقة: الصين، روسيا، وطبعا اميركا التي دخلت في مفاوضات مع "الحركة" حول تنظيم الانسحاب، وتفصيلات ستؤدي الى محاصرة منطق الاعتدال والوسطية وتراجعه.

 


     سيشكل قيام جمهورية اسلامية افغانية "سنية"، مرجعية للحركات الجهادية، وستعمل الدولة "الجديدة" على استقطابهم وان تكون مركزاً لهم.  كما الجمهورية الاسلامية الايرانية "الشيعية"  التي شكلت على مدى العقود الماضية، مرجعية لمحور المقاومة والممانعة.  وهكذا يكتمل عقد الحكم في هذه المنطقة، ويؤول الى الاسلام بشقيه الكبيرين. 

 


    وهل يتمدد النموذج الافغاني، كبادرة "رد الجميل"من مجاهدي طالبان "للمجاهدين العرب" ابان الاحتلال السوفياتي، والانتقال الى مرحلة افغنة العرب؟  وهل يحمل شطب جماعة "انصار الله" في اليمن من لائحة الارهاب  هزيمة جديدة لاميركا ؟ وهل يستعد العراق لتكرار مشهد مطار كابول، وهل هو في انتظار هكذا انتصار؟


      صحيح ان اميركا فشلت في اقامة نظام حديث ل"دولة" متخلفة، احتلتها ثم انسحبت منها. وهذه نهاية حتمية لكل محتل. لكن السؤال: من انتصر في هذه المواجهة؟ 

 


       ان مشهد تساقط الناس المرعب من الجو، الذين تشبثوا بعجلات الطائرة العسكرية الاميركية، وهي تقلع من مطار كابول بصعوبة شديدة وسط الزحام، حيث دخل الطائرة اضعاف ما تستطيع حمله، وانسحاق البعض تحت اقدام الحشود المتدافعة من الشعب الافغاني، تريد الرحيل مع الاميركيين "المحتلين" ليس حبا بهم، بل هربا من  طالبان وقبائلها وجحافلها. وكأنهم مسترشدين بحكمة فرنسية قديمة تقول: "تستطيع ان تفعل بالحراب كل شيء الا الجلوس عليها".

 


       وصناعة النصر لا ’تنتَج بين ليلة وضحاها، وتكون بضاعة جاهزة "ديلفري" تطلب متى تشاء،  بل تأتي نتيجة مسار، وشروط  ’يخطط  لها بمشاريع  تنموية، بشرية واقتصادية وغيرها.  وهي أبعد ما تكون عن  "فكر"  دوغمائي  مقيد  برؤية مسبقة ترى هذا المشهد من زاوية  واحدة.  العداء للغرب، وكأن الناس في هذه المنطقة ’خلقت لمناهضة الغرب. من دون ان يكون هناك هدف لها مثل التفوق عليه، او منافسته، او مجارته،  ولا يستخدم هذا العداء كمحفز لتحقيق تنمية وتقدم، بل استخدم تبريراً. واعتباره  سبباً ابدياً للتخلف والفشل والفساد والفقر. الذي ينخر هذه الدول وشعوبها حتى العظم.  

 


       الفقر والاهتراء والتأكل. هذا الثالوث. الذي ينهش شعوب المنطقة الممتدة من السند الى المتوسط بمنظوماتها الهالكة،  والمتهالكة،المتساقطة، والممانعة، والباقية منذ زمن.  يجمع اطيافها طريقة واحدة في التفكير. انها تفكر بعقلية من لم يغادر"الخيمة" والقبيلة والعشيرة اطلاقا، وتعمل وفق الية قائمة على التبرير واليقين والبيعة. هذا المنطق مبني على  رفض الاخر. واحتكار اليقين، ومعرفة ما يحصل قبل ان يحصل، من تجلياته : تضخم الانا،  وجاهزية الجواب سلفاً:  سلبا او ايجاباً  لكل قضية تطرح حتى قبل ان تطرح. والادعاء بالمعرفة المطلقة. يقول هيغل : "ان المطلق لا وجود له الا بجماعة تتقمصه وتؤمن به".  وبين نظرية تحمل واقع مفروض، وممارسة  تعزز واقع مرفوض، تضيع  دول وشعوب.

 


     ان الفرد والمجتمع  اينما كانا، يريدان الاستقرار والتوازن،  وهما بحاجة الى الابداع والتجديد، ولا يتم هذا الفعل الا بالاقلاع عن العقل التبريري. واعتماد العقل النقدي. فالتغير المبني على معرفة، هو ثورة فكر وعمل،  لتحسين مفاهيم البشر وأحكامهم. والارتقاء بأفاهيم الناس واحوالهم،احزانهم، افراحهم،همومهم، تطلعاتهم ،أحلامهم، والتقدم بالحياة لتكون واحة خير وتوازن وانسجام.

 

 

      نهاية الحرب العالمية  1945 ’قسمت المانيا  الى دولتين: غربية وشرقية، ورغم الخراب الكبير الذي سببه النظام النازي ومشاريع هتلر وحروبه المدمرة ، استطاعت  "المانيا الغربية"  تجاوز الاحتلال والتقسيم.  وحققت نمواً اقتصادياً هو الاول في القارة البيضاء. وبعد سقوط جدار برلين،  احتضنت "الغربية" توأمها "الشرقية"،  وامنتها من الفاقة والعوز والخوف، وفي ظل الوجود الاميركي المستمر بعديده وعتاده وقواعده على اراضيها.  توحدت المانيا بلا طبل وزمر، وتحولت الى قبلة للاجئين، والاعلان عن الاستعداد لأستقبال اعداد كبيرة منهم من كل اصقاع العالم.  لم يصدر عن امارة الملا عمر وخلفائه. بل صدرعن المستشارة الالمانية ميركل،"ام الكل" التي لو كانت في ديار الملا عمر، لاحتاجت الى ’محرم للخروج من المنزل.