بخطوات متسارعة، يقترب لبنان من وضعية سياسية جديدة. حتى الآن، لم تظهر ملامحها في وضوح. ولكن، قبل عام أو اثنين أو أكثر، قلائل هم الذين تخيَّلوا الحدود التي سيصل إليها الانهيار المالي والنقدي، ولم يصدِّقوا أنّه سيقود فعلاً إلى تغييرات سياسية جذرية.
 
إلى أين ستقود المعركة المفتوحة على مصراعيها في لبنان بين «النفط الإيراني» و«الغاز والكهرباء الأميركيين»؟


 

في التسلسل الزمني، فكرة استجرار الكهرباء من الأردن فسوريا وصولاً إلى لبنان قديمة، وكذلك استجرار الغاز المصري عبر الخط العربي. ولكنها كانت ممنوعة من التنفيذ بسبب تقاطع المصالح بين متضررين من داخل منظومة السلطة وقوى إقليمية.

 

اليوم تعود الفكرة إلى التداول بـ«مبادرة» السفيرة الأميركية دوروثي شيا، ولكن، من موقع المواجهة مع إيران التي اتخذت قراراً بالتحدّي ودعم لبنان بالمحروقات:

 

1- تحدّي الولايات المتحدة وإسرائيل بـ«اقتحام» المياه الإقليمية حتى شواطئ لبنان أو سوريا.

2- تَحدّي حظر تصدير النفط المفروض على إيران.

 

في القراءة الإيرانية، كما يقول القريبون من «حزب الله»، «نحن اضطررنا إلى اعتماد خيار التحدّي، لأنّ الهجمة الأميركية علينا، في لبنان، وصلت إلى مطارح حسّاسة، بل مصيرية. فنحن نعرف أنّ الانهيار التام للدولة يستهدفنا تحديداً. وهناك رهان على إسقاطنا من خلال أسقاط البلد ككل.

 

فالكوارث الاجتماعية والإنسانية التي يقود إليها فقدان المحروقات، يُراد منها تفجير نقمة اللبنانيين، بمن فيهم الشيعة، ضدنا بعد تحميلنا المسؤولية. وهذا الأمر في تقديرنا سيقود إلى حرب أهلية. ولذلك، أياً تكن تداعيات استقدام البواخر من إيران، فإنّها تبقى أدنى خطراً على البلد من الانهيار والحرب.


 

ومن هذا المنطلق، يريد «الحزب» توزيع المازوت والبنزين الإيرانيين على المناطق والطوائف بلا استثناء، وبأسعار تُعتبر متدنية. وهذا الأمر سيشكّل ضماناً للحدّ الأدنى من الاستقرار الاجتماعي وتسيير مرافق الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، ما يُحبط مؤامرة السقوط والسيناريو الكارثي».

 

الردّ الأميركي على خطوات «الحزب» جاء مباغتاً، على لسان السفيرة شيا. ولم يتوقّع أحد طرح فكرة الإمداد بالكهرباء من الأردن وبالغاز من مصر، في ظل الظروف التي تتحكّم بخطوط الإمداد.

 

ولكن، وبمعزل عن الاعتبارات السياسية في الخطوتين الإيرانية والأميركية، هناك تفاوت في قابلية التنفيذ وسهولته عملانياً. ففيما طلائع البواخر الإيرانية يُمكن أن تصل إلى لبنان خلال أيام (إذا عبرت قناة السويس) أو بضعة أسابيع (إذا التفَّت عبر رأس الرجاء الصالح)، فإنّ فكرة الاستجرار من الأردن تحتاج إلى أشهر عدّة لتتحقَّق، لأنّ شبكة الإمداد الكهربائي متضرّرة جداً من الحرب الأهلية في درعا.

 

وأما على المستوى السياسي، فالأمور تصبح أكثر عُمقاً وجدّية. فنظام الرئيس بشار الأسد مطلوب منه، في هذه الحال، أن يقوم بتأهيل الشبكة خصيصاً من أجل إنقاذ لبنان، بناء على طرحٍ أميركي وتغطية أميركية في مواجهة إيران.


 

في هذه الحال، الصورة تبدو سوريالية. فكيف للأسد أن يتجاوب مع الولايات المتحدة وحلفائها العرب، ويسهّل لها عملية الالتفاف على حلفائه الإيرانيين و«حزب الله» في لبنان؟

 

من دون كثير من التحليل، لا يمكن الأسد أن يقوم بهذا الانقلاب على نفسه، فيما الإيرانيون و»حزب الله» ما زالوا ينفذون المهمات القتالية في سوريا دفاعاً عن نظامه. وحتى هذه اللحظة، هم يتكبّدون الأثمان، بالرجال والعتاد، بالضربات الإسرائيلية هناك.

 

إذاً، لماذا طرحت شيا فكرة الإستجرار؟ هل لمجرد إحراق الوقت، أو لتبرئة الذمّة تجاه اللبنانيين وتبرير مواجهةٍ آتيةٍ مع البواخر؟

 

في انتظار جلاء الصورة، ثمة مَن يطرح السؤال: ماذا لو سمح الأميركيون والإسرائيليون للبواخر الإيرانية بدخول المتوسط، لغايات معينة؟ وماذا لو سُمح بوصول المحروقات إلى مناطق «الحزب»، فتدور عجلة الحياة فيها طبيعيةً، فيما يتمّ رفض المحروقات الإيرانية في المناطق الأخرى، حيث يكون الوضع في منتهى التردّي اجتماعياً وإنسانياً؟ سيكون هناك تفاوت خطِر جداً بين منطقتين، وبديهي أن يحاول البعض، في المنطقتين، الاستفادة من السعر الإيراني المنخفض للاستفادة المادية.


 

ربما يستدعي الأمر الاستعانة ببواخر من بلدان نفطية عربية إلى المنطقة «غير الإيرانية» من أجل التوازن. وفي أي حال، وجود منطقتين سيفرز وقائع وخياراتٍ يصعب احتسابها.

 

ولكن، يهتمّ المراقبون بتقدير خلفيات الطرح الأميركي، ويطرحون أسئلة عن أبعاده. فالأميركيون يعرفون أنّ لا مجال لتحقيق الفكرة من دون المرور بالأسد والحصول على موافقته ودخوله في مفاوضات حول لبنان، أو مع لبنان. فهل يتقصَّدون إذاً «إقحام» دمشق في أي حل لبناني مقبل؟ وتالياً، هل يكون هذا الطرح من علامات المرحلة المقبلة؟

 

فلا يمكن أن تكون إدارة الرئيس جو بايدن ساذجة عندما طرحت الاستجرار عبر سوريا. وهي تعرف بالتأكيد أنّ ذلك سيشكّل نسفاً لـ«قانون قيصر». وفي أي حال، لم يُظهِر الأميركيون يوماً، لا في عهد ترامب ولا عهد أوباما، رغبة حقيقية في اقتلاع الأسد من السلطة.

 

وواقعياً، أي دورٍ لدمشق في لبنان لا يمكن إمراره من دون الحصول على تغطية إسرائيلية أيضاً. فمنظومة الغاز المتوسطية تشمل مصر والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا وفرنسا. والروس كانوا أبرز المتضرِّرين من هذا الخط، لأنهم يريدون الاحتفاظ باحتكار الإمداد عبر أراضيهم إلى أوروبا.


 

وفي نظر الأميركيين يشكّل تسهيل خط الغاز المتوسطي نقطة كسب إضافية لهم، على خصومهم، بعد خطوة انسحابهم من أفغانستان، حيث ستؤدي عودة «طالبان» إلى قطع طريق الحرير على الصين وإحراجها بتحريك العصبيات الإسلامية والعرقية على الحدود، وكذلك في قلب الجمهوريات التي تدعمها روسيا في آسيا الوسطى.

 

من الصعب أن ينقلب الأسد على إيران و»حزب الله» في لبنان، وعلى المصالح الروسية، ويسير في ركاب الأميركيين وحلفائهم العرب. لكن ذلك ممكن إذا حصل برعاية روسية ورضى إيراني، وضمن صفقة شاملة مع الأميركيين والإسرائيليين والعرب، حيث انّ كل طرف يحفظ مصالحه، وقد تكون جزءاً من مناخ التسوية الكبرى في الشرق الأوسط.