الى الشكوك في صدق نيات البعض برغبته بتشكيل حكومة، فقد عكست التجارب الاخيرة ما يعزز هذا التوجّه الى النهايات الحتمية. وما زاد في الطين بلّة، ان يتجدّد النزاع في الايام القليلة الماضية على بعض الحقائب غير المدرجة بين السيادية، تزامناً مع بعض المبادرات «المفخخة» التي تزكّي الخلافات حول الصلاحيات بين بعبدا والسرايا الحكومية. وهو ما زاد من نسبة القلق على الحاضر والمستقبل. فكيف ولماذا؟
 
ليس صعباً على اي من المراقبين المحليين والأجانب ان يلاحظوا انّ بعض التصرفات والمواقف والشروط والشروط المضادة، أوحت بكثير من الصراحة، انّه لم يكن هناك نيّة لدى بعض القيادات الأساسية بتسهيل تشكيل الحكومة منذ استقالة حكومة «مواجهة التحدّيات». وقد ظهر ذلك واضحاً من «التضحية» بالسفير مصطفى اديب، أولى الشخصيات التي كُلّفت المهمة، فتجاوب بسرعة قياسية وعاد سريعاً الى مقر عمله في ألمانيا، من دون ان يتطلع إلى الوراء. كما جاءت التجربة الثانية مع الرئيس سعد الحريري، لتؤكّد مثل هذا الشعور بطريقة فاضحة لا تحتمل كثيراً من الجدل. فقد احتفل معارضوه قبل ان يُكلّف بلحظة اعتذاره، رغم الكلفة الغالية التي تكبّدتها البلاد على مدى أحد عشر شهراً من المناكفات السياسية التي تسببت بتنامي المآسي والأزمات الصعبة.


 

فقد كانت عملية توليد الحكومة العتيدة ممكنة في أكثر من محطة لو ارادوا ذلك، ولم يكن هناك ما يُناقش في ظلّ الحاجة الى التخفيف من الترددات السلبية التي تركتها محطات مأسوية عدة، مالية ونقدية وسياسية واجتماعية، احتاجت معالجتها الى حكومة كاملة الاوصاف الدستورية، لتقلع بالبلاد من أتون الأزمات التي وقعت فيها. ولعلّ من يحصي الفرص الغالية التي ضاعت، يتثبت بلا اي شك انّها عبرت من دون ان يستفيد منها الساعون الى هذه المهمة.

 

وحتى الساعات الأخيرة، وبمعزل عمّا يمكن ان ينتج من اللقاءات المكثفة المقرّرة بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، فقد كشف احد الوسطاء الذي يشارك في مهمة التأليف خلال الايام القليلة الماضية، انّ هناك رسالة «غير مسبوقة» وصلت الى جميع المعنيين بملف التأليف، العاملين منهم في العلن وأولئك الذين انخرطوا في المهمة سراً ومن خلف الكواليس، في إنتاج المآزق والمبادرات الدستورية والسياسية «المتفجّرة» التي تعوق عملية التأليف، ومفادها انّ «الثالثة ثابتة.. ومن بعدها الطوفان». وما على المعنيين بالعملية سوى ان يتفهمّوا حجمها وما يمكن ان تنتهي إليه الأمور إن بقيت المحاولات الجارية قائمة على ما هي عليه من أنماط تطيل عمر الأزمة وتشدّ الخناق على اللبنانيين من كل الجهات بطريقة باتت تهّدد حياتهم اليومية.

 

وفي الرسالة كلام واضح وصريح لا يمكن أحد ان يتجاهله، انّ محاولات العرقلة لم تعد مقبولة، وانّ التفاهمات على المخارج ليست صعبة، وليس هناك اي عقدة بلا حلّ. وأنّ موازين القوى باتت على قاب قوسين او أدنى من ان تتغيّر. فليس في يد «من يقود العربة بالمقلوب» ان يستمر في الاعيبه بعد مرور عام وسبعة ايام على الفراغ الحكومي، والتي تناوب على إدارتها ثلاث من الشخصيات التي كُلّفت التأليف. وإن أحصت هذه المراجع بعض المحطات فإنّها ستكون على يقين بأنّ المهمة مستحيلة.


 

وتمضي الرسالة لتقول، انّه ولما حان الوقت الذي اعتقد البعض انّ مهمة الرئيس الثالث المكلّف مهمة التأليف ستنتهي الى ما انتهت اليها التجربتان السابقتان، تبدّلت مواقف كثيرة. وخصوصاً انّ هناك من بدأ الاستعدادات لجردة حساب لا بدّ منها، لوضع كثير من الامور والخطوات المبنية على الحقائق في نصابها، وانّ التلاعب بالاستحقاق الدستوري بدأ يلامس مصير الدولة ومؤسساتها ويهدّد حياة الناس اليومية، وانّ من سيتجاوز هذه الوقائع عليه ان يتحمّل المسؤولية منفرداً. واياً كان الموقع الذي يحتله ولو في الكواليس، فهو يقود البلاد الى الجحيم، حيث لا يمكن أحد من الداخل والخارج ان يقبل به. وانّ المسؤولية تقع أيضاً على من يغطي ويدفع الى هذه الهاوية. وأنّ على هؤلاء جميعاً ان يتوقفوا فوراً. فهناك كثير من المؤشرات المخيفة التي لا يمكن تجاهلها على الإطلاق. فقد تسلّلت الازمة الى جماهير الجميع، حتى تلك المحصّنة خلف الأبواب الحديد والتي تغذيها العملات الصعبة والشعارات الرنانة والطنانة التي لم تعد تقنع أحداً. وانّ البديل الذي يمكنه مواجهة مرحلة ما بعد الانهيار غير موجود، مهما بلغت قوته وقدراته. فانهيار الدولة الذي ظهر في أكثر من محطة في الأيام الأخيرة الماضية وتزامنه مع انعدام ابسط الخدمات الحياتية ومقومات العيش اليومية، لم تعد مجرد وهم. ومن يدّعي القدرة على إدارة محيطه وبيئته التي بدأت التفلّت منه، لا يمكنه التوسع الى ما هو أبعد منهما، وسيكتشف انّها المهمة المستحيلة التي لا يمكن الخوض فيها او الاقتراب منها.

 

وتأكيداً لذلك، يعترف أحد الوسطاء البارزين الذي يواكب الرئيس ميقاتي منذ تكليفه في 26 تموز الماضي بالمهمّة الجديدة، انّ بعض المبادرات الاخيرة «المفخخة» التي اتُخذت، ولا سيما تلك التي أحيت النقاش حول موضوع دعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد، رغم معرفة من أفتاها بموقف رئيس حكومة تصريف الاعمال منها، ومخاطبة مجلس النواب للبحث في مصير قرار حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة في شأن رفع الدعم، فقدت وهجها الدستوري والتشريعي والسياسي في آن. فإلى ما كشف عن معرفة الجميع بمصيرها مسبقاً، فنهايات مراجعات بعبدا السابقة امام المجلس النيابي لم تُنس بعد. وهو ما طرح السؤال حول نجاعة مثل هذه الخطوات ان كانت الولادة الحكومية قريبة، إلّا في حال أُريد منها نسف ما تحقق من تفاهمات.


 

وعليه، توقف المراقبون امام هذه المبادرات، ولم يتمكن أحد من تقييمها ايجابياً لا في شكلها ولا في مضمونها ولا في توقيتها. وخصوصاً انّها تلاقت مع مسعى للتلاعب بتوزيعة الحقائب التي لم تكن يوماً على لائحة السيادية او الخدماتية منها، كوزارة الشؤون الاجتماعية مثلاً بعد الطاقة والصحة والأشغال. وما زاد من نسبة القلق، أنّها أعقبت مرحلة حُسم فيها الجدل حول السيادية منها، فبقيت على ما كانت عليه، وهو ما سيؤدي في حال التمادي بمثل هذه المطالب، الى اعادة نظر واسعة في التشكيلة وربما إخضاعها لأصول لعبة «الدومينو»، في وقت يبدو انّ لعبة «البوكر» التي يتقنها البعض للمقامرة بلقمة عيش المواطن زادت عن حدّها ويجب وقفها. وإنّ غداً لناظره قريب.