هل تختلف الحقائق بإختلاف السياق الزمكاني أو بإختلاف أصحابها وإختلاف أفكارهم ومعتقداتهم وطريقة نظرتهم للحياة؟ 

 


هي أسئلةٌ كثيرةٌ تراودنا خاصةً عند النظر الى الإنقسام العمودي الذي تعيشه مجتمعاتنا عند كل محطةٍ مهمّة ساسيةٍ كانت أم إجتماعية نجد فيها أن الأطراف المختلفة يقف كلٌّ منها على النقيض من الآخر وهو  مستعدُ لتبني أكثر الخيارات تطرفاً للدفاع عمّا يعتقده الحقيقة المطلقة.

 

 


بدايةً قد يكون من المناسب تحديد مفهوم "الحقيقة" الذي نريد إعتماده في هذا السياق إذ إننا لسنا بصدد الخوض في نقاشات فلسفية حول إثبات وجود الحقيقة المطلقة من عدمه أو أن لا حقائق ثابتة، بل سنتبنى التحديد الإبستمولوجي المعرفي الكلاسيكي وهو أن الحقيقة تتميز عن الإعتقاد الشخصي بإعتبارها مبرّرةً وتعتمد على البراهين أولاً، وبإعتبار أن الوصول إليها يتطلب طرق تفكيرٍ عقلانيةً ومنطقيةً ثانياً، مع العلم أن ما يُعتبَر  عقلانياً ومنطقياً يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالسياق الزماني والتاريخي فما كان يُعتبَر طبيعياً أو منطقياً في القرون الوسطى قد نجده غير مقبولٍ مثلاً اليوم والعكس صحيح، ولذا فعندما نستخدم مصطلحَي "منطقي" و"عقلاني" في هذا المقال، نقصد بهما ما يُعتبَر كذلك بالنسبة لإنسان القرن الحادي والعشرين و للقيَم التي تُحَدّد ثقافتنا كبشرٍ على هذا الكوكب في هذه الفترة المحددة من تاريخنا وما اتفق عليه السواد الأعظم من الناس كشرعة حقوق الإنسان مثلاً وما تنصّ عليه من حقوقٍ وحريات، بالإضافة الى مفاهيم أخرى لطالما اتفقت عليها كافة الشرائع الأرضية منها والسماوية كتجريم القتل والسرقة والتعدي على الآخر و ممتلكاته أو كعدم التمييز بين البشر وتحقيق مبدأ المساواة بينهم على سبيل المثال.

 


في تطبيقٍ عملاني لما سبق ذكره على الواقع الذي نعيشه في الشرق الأوسط، يمكننا أن نعتبر اليوم دون أدنى تردد أن لبنان وسوريا والعراق واليمن هي دولٌ فاشلة ومدمَّرة وشعوبها شعوب بائسة وذلك استناداً الى حقائقَ غير قابلة للجدال وبناءً على مؤشراتٍ "منطقية" و"عقلانية" تُظهِر بالأرقام والوقائع الملموسة أن هذه الدول تعاني من الإنهيار التام على كافة الصعد الإقتصادية والإجتماعية والسياسيةٍ والمعيشية والحقوقية، فكيف إذن يمكن لجماهير الأحزاب الدينية التي تدور في فلك إيران أن تعتبر أنها تعيش عصرها الذهبي وأنها حققت لأوطانها نصراً مؤزراً؟  


ما هي الأسباب التي قد تدفع البشر الى عدم رؤية الحقيقة أو تجاهلها؟ 


وكيف يمكن لجماعاتٍ أو فرقٍ كاملة التنكر للمنطق والعقلانية والتشبث جماعياً بأفكارَ ومفاهيم لا تمت للواقع بصلة؟ 


وما هي الأساليب والإستراتيجيات التي يتبعها قادة هذه الجماعات ومحرّكوها للسيطرة على عقول جمهورهم والحفاظ عليهم ضمن القطيع مكبّلين بالطاعة العمياء والإستسلام المطلق؟ 


في السعي وراء بعض الإجابات على هذه الاسئلة، من الأساسي البحث على مستويَين إثنين، أحدهما اكثر عموميةً وهو مرتبطٌ بنمط الإعلام والتواصل السائد اليوم في العالم بأسره والآخر أكثر خصوصيةً ويرتبط بصميم تكوين هذه الأحزاب والفرق وطبيعة جمهورها.

 

 


على الصعيد الأول، تشير الدراسات العالمية الى الإزدياد الهائل في عدد الذين يعتمدون على وسائل التواصل الإجتماعي للحصول على الأخبار؛ وفي حين أن هذا النوع من وسائل التواصل أثّر بشكلٍ إيجابي على أحداثٍ عدة شهدتها دول مختلفة وخاصةً العربية منها خلال فترة الربيع العربي وذلك من خلال تبيان الآراء الحقيقية للشارع، بالإضافة الى توثيق مختلف إنتهاكات وجرائم السلطة التي ما كان أحدٌ ليطّلع عليها من خلال متابعة القنوات التلفزيونية الخاضعة بمعظمها للسلطة، إلا أنها تقدّم وجهاً آخر أقلّ إشراقاً. ففي الصحافة التقليدية التي تُعتبَر عنصراً أساسياً في الديمقراطية، هناك مبدئياً معايير ناظمة والتزامات لا مهرب منها وهذا ما ليس متوفراً في وسائل التواصل الإجتماعي مما يجعلها ملعباً مناسباً لكافة القوى والمجموعات الهادفة لتضليل الرأي العام و التلاعب بعقول جمهورها على وجه الخصوص. ولا يمكن اعتبار عملية التلاعب هذه عمليةً عشوائيةً بل مساراً منظماً تُتبَع فيه إستراتيجيات تضليل واضحة ومدروسة، منها ضخّ كميات ضخمة من المعلومات على مدار الساعة مع زجّ الأخبار الكاذبة و الهادفة الى إثارة النعرات والتحريض ضمنها، مما يقلل قدرة المتلقين على التركيز وبالتالي قدرتهم على تصفية المعلومات وإنتقاء الحقيقي منها، وكذلك الإعتماد على ما يسمى "الذباب الالكتروني"، وهم أشخاصٌ قد يستخدمون حساباتٍ وهمية ويتمثل دورهم الأساسي في ترويج الأخبار لصالح الجهة التي توظفهم ووضع تعليقاتٍ مؤيّدة  قد تبدو للوهلة الأولى مستقلةً لإظهار الإلتفاف الشعبي حول الفكرة أو المبدأ المطروح أو التحريض من جهةٍ أخرى على المعارضين وتشويه سمعتهم ضمن حملات كراهية وخططٍ قد تكون في بعض الأحيان تمهيداً لعمليات تصفيةٍ جسدية. 

 


بالإضافة الى ما سبق، تعمل هذه القوى في حملاتها وحروبها الإلكترونية على تضخيم الأحداث مهما كانت سخيفة إذ تُظهِر دراسات علم النفس أن هذا التضخيم المستمر يؤدي الى فقدان الإرتباط التدريجي للجمهور بالواقع وصولاً الى النكران التام للواقع. 

 


وقد فهمت الأحزاب والمجموعات التابعة لإيران وغيرها من الأحزاب الدينية العقائدية في المنطقة هذه الأهمية البالغة لمواقع التواصل الإجتماعي والفائدة التي يمكن أن تقدّمها وقامت بإستغلالها الى أبعد الحدود وهو ما يظهر جلياً مثلاً في قيام حزب الله اللبناني بتشكيل مجموعات تواصل إجتماعي لكل فئةٍ من فئات جمهوره ترفدهم بعشرات بل مئات الأخبار يومياً أو التطبيل لدخول سوريا وكأنها إنتصار في الوقت الذي شكلت فيه هذه العملية نكبة بكل المعايير على المدنيين السوريين الذين ثاروا ضد الظلم وعلى جمهور هذا الحزب على حد سواء أو تصوير الحوثيين لكل عملياتهم مهما صغرت وفشلت وبثها على أنها عمليات بطولية ستؤدي الى "النصر" المحتّم في نهاية المطاف. 

 


أما على الصعيد الثاني، وبحكم طبيعة هذه الأحزاب والمجموعات التي تقوم بإقحام الدين في السياسة والتي تطلب الطاعة والإمتثال التّامََين من جمهورها، تكون إحدى ركائزها الأساسية تأليه القائد وإظهاره بمظهر المحقّ دائماً مما يلغي أي محاولة للنقاش والإعتراض. وتعتمد صناعة هذه الصورة للقائد بشكلٍ أساس على زرع الخوف من الآخر (بغض النظر عن الآخر )الذي قد يختلف ويكون خارجياً أو داخلياً حسب متطلبات المرحلة - بين الجماعة/القطيع وإظهاره بمظهر المخلّص الوحيد الذي بدونه نهاية الجماعة. ويؤكد علم النفس التطوري نجاعة هذه الطريقة إذ إن البشر لا يزالون يحافظون على غرائز بدائية موجودة لديهم منذ آلاف السنين، ومنها غريزة الإلتفاف حول القائد الأقوى الذي يؤمِّن لهم البقاء على قيد الحياة حسب نظرية داروين للتطور الطبيعي. 

 


كذلك، تركّز هذه الأحزاب على تبسيط الدين وتسطيحه واختصاره بالطقوس والشكليّات والمظاهر في إبتعادٍ تامٍ عن روحية الفلسفة الدينية الحقيقية التي تعالج ثنائية الخير والشر الأبدية وواجب البشر المتمثل في مساندة الخير ومحاربة الشر، فيصبح هذا الجمهور متديناً شكلاً ولا أخلاقياً بمعظمه ضمناً من دون أدنى شعور بالذنب أو بضرورة مراجعة الذات، وتنقلب المفاهيم كافة في تشويهٍ تامٍ لجوهر الشرائع السماوية، فتكون كرامة الإنسان مثلاً منوطة بقتاله وموته دفاعاً عن خرافاتٍ تاريخية في حين لا يتم اعتبار الوقوف في طوابير الذلّ لساعاتٍ من اجل الحصول على الوقود أو الخبز او الدواء إنتهاكاً للحقوق البشرية ولكرامة الإنسان في القرن الحادي والعشرين. 

 


تنجح الأحزاب والمجموعات التي تدور في فلك إيران بنشر الفوضى والإرهاب في البلدان العربية متسلحةً بعناصر الحكم الديني (صناعة القائد/الإله، تفصيل الدين على مقاس مآربها السياسية)  وبعناصر الدكتاتورية الكلاسيكية المتمثلة بالسيطرة التامّة على مصادر معلومات جمهورها، مستعينةً بوسائل التكنولوجيا الحديثة والتواصل الإجتماعي: تركيبةٌ ماكيافيليةٌ تجعل المهمّة أسهل وأكثر دهاءً في ظل غياب شبه تام للدولة في البلدان المعنية وتقصير المجتمع الدولي الذي ما زال يعالج النتائج ويغض الطرف عن الأسباب.