نفض الرئيس ميشال عون فجأة الغبار عن مطلب المداورة الشاملة في الحقائب الوزارية وتحديداً السيادية، هذا المطلب الذي غاب عن أدبيات الرئاسة الأولى على مدى 9 أشهر من تكليف الرئيس سعد الحريري، فلماذا أعاد التركيز اليوم على المداورة على إثر تكليف الرئيس نجيب ميقاتي؟

تقصّدت رئاسة الجمهورية في الأيام الأخيرة تعميم أجواء عبر مصادرها تؤكّد فيها على تمسّك الرئيس عون بالمبادرة الفرنسية والدستور، الذي لا ينص على تخصيص حقيبة معينة لطائفة محدّدة، قاصداً وزارة المالية للطائفة الشيعية، وذلك إحياءً للنقاش الذي أعقب تكليف الدكتور مصطفى أديب وعاد وحسمه الرئيس سعد الحريري بموافقته على استثناء المالية من المداورة، فيما العِقَد التي برزت بين عون والحريري وحالت دون التأليف واعتذار الحريري، لم تكن المداورة جزءاً منها، حيث انحصر الخلاف المعلن بينهما على الجهة المولجة تسمية وزيرين مسيحيين، إلى جانب عِقد أخرى من هذا القبيل.


 

فلو كانت الرئاسة الأولى جدّية وحريصة فعلاً على المداورة الشاملة وعدم تخصيص المالية للشيعة، فلماذا تجاهلت هذا الأمر إبان كل فترة تكليف الحريري، وأعادت التركيز عليها بعد تكليف الرئيس ميقاتي؟ وهل من رسالة يرغب العهد في توجيهها للثنائي الشيعي و»حزب الله» تحديداً، وما هي طبيعتها؟ وهل انتقل عون من موقع الحليف للحزب إلى موقع الخصم، ولماذا؟ وهل هذا الطرح او المطالبة جدّية أم مناورة، وما الهدف منها؟

 

يمكن وضع التركيز المستجد للرئيس عون على المداورة الشاملة ضمن خمسة احتمالات أساسية:

الاحتمال الأول، يندرج في سياق الضغط على «حزب الله»، حيث يُدرك عون أنّه بأمسّ الحاجة لحكومة، في ظل خشيته من سقوط الدولة التي يُمسك بقرارها، وجاء تكليفه لميقاتي في إطار الرسالة إلى عون نفسه بضرورة الإسراع في التأليف. وبالتالي، انطلاقاً من معرفة رئيس الجمهورية بحاجة الحزب إلى حكومة، يريد منه ان يتدخّل لدى ميقاتي من أجل ان يتنازل عن وزارة الداخلية لصالح العهد، خصوصاً انّه يعتبر بأنّ الحزب لا يمكن ان ينأى بنفسه عن هذه المسألة، ويريده إلى جانبه لا إلى جانب ميقاتي.

 

الإحتمال الثاني، يدخل في إطار الرسالة إلى الغرب وتحديداً واشنطن وباريس، وإلى الخليج وتحديداً الرياض، بأنّ العهد يريد تطبيق اتفاق الطائف وضد منح «حزب الله» الوزارة التي يريدها، وانّه يواجه الحزب خلافاً للرئيس المكلّف وقبله الحريري، وذلك من أجل إعادة نسج العلاقات مع الخارج على قاعدة الخصومة مع الحزب، وفتح باب التفاوض في ملفين أساسيين: رفع العقوبات الأميركية عن رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، والتي تشكّل حاجزاً حقيقياً أمام وصوله إلى رئاسة الجمهورية. والملف الثاني التمهيد لباسيل لخلافته، على قاعدة انّه الفريق الأقدر على الحدّ من تمدّد الحزب داخل الدولة وترسيم حدوده ونفوذه داخل هذه الدولة.


 

الإحتمال الثالث، يأتي في سياق سعي العهد لترميم صورته ووضعيته الشعبية المسيحية، على إثر الانتفاضة الشعبية التي عصفت في وجهه، والانهيار المالي الذي حصل في عهده، وإدراكه التحوّل الكبير في مزاج المسيحيين ضد «حزب الله»، وبالتالي يريد ان يقول لهذا الشارع بأنّه على استعداد لمواجهة الحزب وإعادة تموضعه السياسي، وانّه الرئيس القوي المتمسِّك بالدستو والأقدر على مواجهة الجميع، من الرئيس المكلّف السنّي، الذي يريد التعامل مع رئيس الجمهورية كأمر واقع لا كشريك، طبعاً وفق رواية العهد، إلى الحزب الذي لا يستطيع أحد مواجهته. بمعنى انّ الرواية التي يريد تقديمها للمسيحيين هي انّه في مواجهة مع السنّة والشيعة حفاظاً على صلاحيات المسيحيين.

 

الاحتمال الرابع، يدخل في إطار استدراج «حزب الله» إلى مفاوضات بعنوان خلافة باسيل له. ومعلوم انّ الحزب يرفض فتح باب التفاوض في هذا الملف اليوم بحجة انّه من المبكر الحديث في الانتخابات الرئاسية، وانّ الأولوية هي لتأليف الحكومة، ولكنه لا يريد في الحقيقة إعطاء اي التزام رئاسي لباسيل او غيره، فيما عون مصرّ على وضع الحزب أمام المعادلة الآتية: لن أسهِّل التأليف قبل ان أحصل على وعد رئاسي بخلافة باسيل.

 

الاحتمال الخامس، يندرج في سياق سعيه إلى تأليف حكومة يكون ممسكاً بمفاصل قرارها، كونها قد تكون الحكومة الأخيرة في عهده، وفي حال لم يتمكن من ذلك فإنّه لن يرضخ لأي ضغط داخلي أو خارجي تلافياً للانهيار الكبير، لأنّه يعتبر انّ الانهيار الذي يمكن ان يحصل كنتيجة للفراغ يبقى أفضل بكثير من حكومة لا تلبّي تطلعاته السلطوية.


 

وفي هذا السياق، بالذات لا يجب استبعاد النظرية القائلة بأنّ الدفع باتجاه الانهيار يشكّل أحد الخيارات الأساسية لهذا الفريق السياسي، لأنّه عن طريق الانهيار يتخلّص من ثلاثية قاتلة له:

 

يتخلّص أولاً من الانتخابات النيابية التي يتخوّف كثيراً من نتائجها وتقليصها لحجم تكتله وإظهارها تراجع شعبيته.

 

يتخلّص ثانياً من الانتخابات الرئاسية وخروجه الحتمي من القصر الجمهوري، فيما الانهيار يفتح له الباب أمام التمديد الرئاسي، ليس بتعديل الدستور، بل كأمر واقع بفعل الأحداث وضرورة استمراره في موقعه حفاظاً على هذا الموقع ومن يمثِّل.

 

يتخلّص ثالثاً من تحميله وزر الانهيار وغضب الناس منه، لأنّه مع انتقال البلد إلى حقبة جديدة بعنوان الفوضى، تختلف معها أولويات الناس ومخاوفها وهواجسها.

 

فلا يمكن تفسير إصراره على المداورة الشاملة، وهو الحليف الاستراتيجي للحزب، سوى في سياق المقايضة التي يسعى إليها العهد مع الحزب، خصوصاً انّه يدرك بأنّ حليفه يتمسّك بوزارة المالية لاعتبارات سياسية تتعلّق بخلق أعراف جديدة تتيح له التمدُّد داخل الدولة وفرض سياسة أمر واقع على الأرض من خلال سلاحه، وداخل المؤسسات من خلال الأعراف الجديدة المخالفة لنص الدستور وروحه.

 


 

فلا علاقة لتمسُّك العهد بوزارة المالية بحرصه على الدستور وتطبيقه، لأنّه لو كان كذلك لما وافق على إبقاء وزارة المالية مع الشيعة في حكومة عهده الأولى والثانية والثالثة، ولما كان غاب هذا المطلب على مدى 9 أشهر مع الحريري، وما بروزه اليوم مجدداً سوى محاولة لمقايضة بين حدٍّ أدنى يتراوح بين انتزاع شيء ما من الشيعية السياسية يستطيع ان يروِّج له في الداخل والخارج، وبين انتزاع وزارة الداخلية لاعتبارات انتخابية وتحقيقاً لمكسب تفاوضي يعتقد بأنّه يخدمه شعبياً، وبين حدّ أقصى يتراوح أيضاً بين انتزاع التزام بخلافة باسيل له، وبين الذهاب إلى الانهيار الشامل الذي يتيح له الاستمرار في القصر الجمهوري.