كان الفيلسوف اليوناني أرسطو( المعلم الأول) يعتقد بأنّ العالم مُتغيّر، وكلّ تغيُّر يحدث في هذا العالم يهدف لتحقيق الكمال، والكمال هو العلّة "الغائية" التي يتّجه إليها كلّ معلول، فلا تلقائيةَ ولا صدفة في هذا العالم، والعالَم المتغير لا بدّ له من مُحرّك، وهذا المحرّك لا بدّ له من محرك، وهكذا دواليك، فإمّا أن يستمرّ التّسلسل إلى ما لا نهاية له، وهذا مُحال، وإمّا أن يتوقف عند محرّكٍ أول، يكون عِلّة جميع الحركة، ولا عِلّة له، فهو المُحرك الأول أو علّة العِلل، أو "الله".

 


هذه حال لبنان الكبير هذه الأيام، كلّ ما يجري فيه إنّما له غاية، فلا صدفة ولا تلقائية، ولا فوضى( سواء منها الخلّاقة أو الهدّامة)، كل ما يحدث حولنا من تطوراتٍ ومآسٍ وانهياراتٍ على كافة المستويات، إنّما تقف عند مُحرّكٍ أول، هو حزب الله، والحزبُ يُفاخر بذلك ولا يتبرّأ من تبِعاته، فالحزب دأب منذ أكثر من عشرين عاماً على بناء "دُويلته" التي تنامت وتعاظمت خلال العشر سنوات الماضية، في حين اضمحلّت الدولة اللبنانية "الشرعية" بوتيرةٍ متسارعة، حتى شارفت اليوم على الهلاك، وإلاّ كيف نُفسّر تصميم وعزم أمين عام حزب الله للتّصدّي لانتفاضة السابع عشر من تشرين الأول عام ٢٠١٩، بما في ذلك استخدام القوة والقمع، وكيف نُفسر اختيار رئيس وزراء "أكاديمي" ليتنطّح ويحمل مهام السلطة السياسية المُكلّفة بمعالجة مسؤوليّات مُستعصية،وكيف نُفسر صرف مليارات الدولارات وتبديدها على دعم المحروقات والمواد الغذائية الأساسية والمستحضرات الطبية التي تُهرّب جهاراً نهاراً إلى سوريا، وكيف نفسر تنطّح الرئيس سعد الحريري منذ أكثر من تسعة أشهر لتأليف حكومة جديدة، وهو يعرف مُسبقاً أنّها لن تُؤلّف ما لم "يركع" صاغراً أمام صهر الرئيس عون الوزير جبران باسيل، وكيف نفسر قيام سيد العهد العوني القوي بتدمير عهده وتدمير البلد دون أن يرفّ له جفن، وكيف نفسر دعم حزب الله لتولّي سعد الحريري مهام تأليف حكومة جديدة، ومُعاضدة ودعم خصمه اللدود جبران باسيل في ذات الوقت وذات المسلك، لا بل كيف لنا أن نفهم تباهي الحريري بالأمس مرتين وأكثر، قيامه (بطواعية وبملء إرادته) بتأمين نصاب جلسة الثقة لحكومة حسان دياب-الدّمية، وكيف نفسر تهاوي المبادرة الفرنسية وغيرها من المبادرات الأوروبية والعربية، وكيف نفسر تعطيل مسارات التحقيق القضائي في جريمة تفجير مرفأ بيروت النووي في الرابع من شهر آب الماضي، كيف يمكن تفسير كلّ تلك الأحداث الدراماتيكية دون أن نهتدي إلى محرّكها الواضح الجليّ بلا أقنعة: حزب الله، فهو الوحيد القادر، والذي يسعى إلى غايته، ويبدو أنه لن يتوقف قبل انهيار ما تبقّى من مقومات الدولة اللبنانية المتهالكة، لتخلو له "الأمارة"، مع الإعتذار لاستعارة هذا المصطلح من أدبيات الإسلامويينَ السُّنّة.

 

إقرأ أيضا : نائبٌ حَصان وامرأةٌ حَصان، لا تُرفعُ الحصانةُ إلاّ بالسّبي.

 

 

 


بعد إعتذار الرئيس سعد الحريري بالأمس، صخبٌ في الشوارع، سيلٌ من التحليلات والآراء الإعلامية والتنبؤات، دون أن نغفل صلوات ذوي النوايا الحسنة، في حين أنّ المحرك الأول والأخير بات معلوماً لا غموض حوله، وكما سبق القول، فهو لا يُخفي ذلك، بل يتباهى باعتباره المُحرّك الأول، المُنزّه عن الصغائر وخبائث الأرض، التي يتخبّط فيها رجال السياسة و الصحافة والأعمال( بما فيها أعمال التّهريب وتجارة المخدرات والسلاح والعُملات) ويكتوي بنيرانها اللبنانيون الصابرين الغافلين.