الواضح اليوم هو أنّ ما يجري بداية لعملية «الارتطام الكبير». والواضح أيضاً أنّ دخول لبنان في الفصول التالية، الأشدّ هَوْلاً، بات أمراً محسوماً. ولكن، تتباين التوقعات إزاء الآتي: ما الذي سيُنتِجه الانهيار سياسياً؟ وأي بلدٍ سيعاد بناؤه من الركام، وأي دولة؟

 

في قراءة «حزب الله» للانهيار المالي الحالي أنّه ليس قَدَراً فحسب، وأنّه ليس حصراً نتيجة فشل الدولة وفساد الطبقة السياسية، بل هو عملٌ مقصودٌ ومخطَّطٌ له، من جانب أعداء «محور المقاومة»، لخلق حالٍ من عدم الاستقرار الشامل، ولزعزعة مقومات الدولة التي يتمتع فيها «الحزب» بالموقع الأقوى ويحصل على التغطية السياسية.


 

بعض المحللين الحياديين يقول إنّ «الحزب» على شيء من الحقّ، في هذه النظرة تحديداً، وإن كان هو نفسه جزءاً من المنظومة السياسية إيّاها. فالفساد ليس جديداً في لبنان. وهذه الطبقة السياسية تحكم البلد منذ عشرات السنين. ودائماً، كان رموزها يتقاسمون منافع الدولة ومواردها ويتلاعبون بالقوانين والدستور، ولم تعترض أي من القوى الدولية على ما يجري، ولم تتحدّث عن فساد.

 

ويذهب هؤلاء أكثر فيقولون: رموز الفساد هؤلاء يقيمون أفضل العلاقات مع الطواقم الديبلوماسية المتعاقبة في بيروت. وعندما كان هؤلاء الرموز يجدّدون لأنفسهم بقوانين انتخاب وانتخاباتٍ مشكوك بسلامتها، لم يكن يعترض أحد في المجتمع الدولي.

 

وعلى العكس، كان يتمّ تجاهل الشوائب وأصوات الاعتراض الصادرة عن الهيئات والجمعيات الأهلية والحقوقية. وأما مؤتمرات الدعم المالي للبنان، فقد استمرت طويلاً بلا ضوابط، وغالباً لم يكن هناك أي اهتمام بالشفافية في تلزيمات البنك الدولي أو أي من المؤسسات المانحة، ولم يتمّ التأكّد من كيفية إنفاق المساعدات والقروض في بيروت.

 

في رأي هؤلاء: قرَّر الرئيس دونالد ترامب تفجير الأزمة في لبنان، بعد وصوله إلى الرئاسة في العام 2017. ولكن الذين سبقوه لم يمارسوا «الفيتو» على الجهات والمؤسسات المانحة في عمليات تمويل الفساد اللبناني.


 

كان ممكناً أن يقوم أي رئيس سابق بفرض «فيتو» على المساعدات لمنظومة السلطة وإحداث الانهيار في أي وقت مضى، منذ سنوات. كما كان ممكناً أن يؤخّر ترامب الانهيار ليقع في عهود لاحقة. ولكن، جاء توقيت 2019 سياسياً. فالمطلوب تحديداً هو الضغط على إيران وفكّ سيطرتها على السلطة في لبنان.

 

ولكن، في المقابل، ماذا سيفعل الإيرانيون للدفاع عن امتيازاتهم الحالية وضمان إمساكهم بالسلطة؟

 

الأرجح أنّهم صاروا اليوم حسّاسين جداً على أي خطوة داخلية أو غربية يشتَمُّون فيها رائحة إضعافٍ لهم أو إقصاء عن السلطة. وسيقاتل «حزب الله»، بكل الوسائل، دفاعاً عن نفوذه، بما في ذلك القوة العسكرية إذا اضطرته ظروف المواجهة.


 

وفي هذا الشأن، تحاول الأوساط السياسية المتابعة تلمّس السيناريو المحتمل إذا تعرّض «الحزب» لهجوم الغربيين أو حصارهم، تحت عناوين المساعدات الإنسانية. ويتدرّج هذا السيناريو كالآتي:

 


عندما يشعر «الحزب» بأنّ الأميركيين والفرنسيين والسعوديين بدأوا ينجحون في استثارة شارع لبناني ضدّ السلطة التي يديرها، سيشن هجوماً شرساً لإحباط المحاولة وتعطيل مفاعيلها، كما فعل بعد 17 تشرين الأول 2019.

 

وسبق لـ»الحزب» أن خاض معارك من هذا النوع في الداخل، أبرزها 7 أيار 2008. وهو عموماً لا يخشى عواقبها لأنّه يعرف السبل إلى تطويق ذيولها الأمنية والسياسية والطائفية.

 

ولكن، إذا شاءت الظروف أن تتصادم القوى الغربية مع «الحزب» مباشرةً، ووضعته أمام تحدٍّ مصيري، فسيكون أمام 3 خيارات:

1- أن يقاتل دفاعاً عن موقعه في السلطة ككل، ليبقى محتفظاً بالسلطة المركزية. وهذا النوع من القتال يرتدي طابع الخطر الشديد بكل المعايير.

2- أن ينخرط في تسوية سياسية مع القوى الداخلية والخارجية، تقضي بترتيب وجوده وعلاقته بالدولة، كتنظيم مسلح وحزب سياسي، سواء ضمن صيغة مركزية أو لامركزية للبلد.

3- أن يتخلّى عن «طموحات» سيطرته على السلطة المركزية ويكتفي بالنفوذ في «مناطقه»، متحصّناً بترسانته الصاروخية. وهذا يعني انقسام لبنان جغرافياً بين منطقتي نفوذ:

واحدة خاضعة لـ»الحزب»، وأخرى خاضعة للقوى «الشرعية»، مدعومة بالقوى الدولية التي ربما تكون طبيعة وجودها في لبنان إنسانية وسياسية- عسكرية في آن معاً. وهذا الواقع يستتبع ربما نشوء كيانات أخرى، لضرورات طائفية ومذهبية وسياسية.


 

من هذا المنطلق، يمكن القول إنّ المخاوف على مصير لبنان الحالي أصبحت جدّية أكثر من أي يوم مضى. ونار الانهيار التي تَطبخ اليوم كل شيء، ربما تتسبب بتفكُّك لبنان كما يحدث التفكُّك الحراري للأجسام، وفق قوانين الفيزياء، فلا تبقى منها إلّا ترسّبات ضئيلة.