هل فعلاً بدأ الرئيس جو بايدن يبدِّل اقتناعاتِه وسلوكَه في ما يتعلق بالملف الإيراني؟ وفي عبارة أخرى، هل بدأ يقتنع بصوابية نهج «الضغط الأقصى» الذي كان يعتمده السلف والخصم اللدود، دونالد ترامب؟ تالياً، إذا حصل ذلك، كيف سينعكس على توازنات القوى في الشرق الأوسط، وماذا عن لبنان؟

يمكن القول إنّ التوقعات المتفائلة، التي انطلقت في نيسان الفائت، مع انطلاق مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي، قد سقطت أو هي على وشك السقوط. فالجولة السابعة التي كان متوقعاً أن تُجرى مطلع الشهر الجاري لا تبدو في الأفق.

 

هذا الأمر لا يحتاج إلى تحليل. فالإيرانيون أبلغوا الى الوسطاء الأوروبيين صراحةً أنهم يفضِّلون التأجيل إلى حين تسلُّم الرئيس الجديد ابراهيم رئيسي مهماته الدستورية، أي آب المقبل، لأنّ خياراتهم التفاوضية أمرٌ حيوي جداً لهم، ولا يمكن أن تتبلور إلّا بالتشاور داخل الإدارة الجديدة.


بالمفهوم الديبلوماسي، قرأ الوسطاء هذا التأجيل في اعتباره محاولة من الإيرانيين للضغط على واشنطن باستخدام عامل الوقت. فطهران مقتنعة بأنّ إدارة بايدن تستعجل الخروج من ملف المفاوضات بالحدّ الأدنى من الخسائر، تنفيذاً للوعد الذي أطلقه الرئيس خلال حملته الانتخابية، بوقف الانغماس الباهظ الثمن للولايات المتحدة في أزمات الشرق الأوسط. والدليل هو استعجاله الانسحاب من أفغانستان، حيث نظام الحُكم الذي دعمته واشنطن معرَّض للسقوط الوشيك في أيدي حركة «طالبان».


ولكن، في واشنطن، ثمة من يجزم بأنّ القراءة الإيرانية للموقف الأميركي متسرّعة. فإدارة بايدن، بانسحابها من أفغانستان، تضع خصومها في موقع شديد الإحراج، بل تفتح عليهم جبهات ينشغلون فيها وتهدّدهم في الخاصرة الضعيفة.


عندما تسيطر «طالبان» على أفغانستان، سيصبح الإيرانيون على حدودهم في مواجهة مباشرة مع تنظيم سنّي متطرّف شديد الدينامية، ما يثير قلقهم على الاستقرار المذهبي في الداخل الإيراني. كما أنّ «تعملق» حركة «طالبان» يثير حفيظة موسكو، لأنّه قد يُحرِّك الحساسيات الطائفية في الداخل الروسي. وحتى الصينيون سيتضرّرون من سيطرة «طالبان» للأسباب ذاتها.

 

إذاً، إدارة بايدن تتَّجه إلى مسار أكثر تشدّداً مع إيران، في الملف النووي كما في الملفات الأخرى. فهي في مفاوضات فيينا رفضت العودة التلقائية إلى اتفاق 2015، ووضعت شروطاً صارمة: التزام طهران نصّ الاتفاق وروحه، وربط التنفيذ بالتزاماتها في ملفات الصواريخ البالستية والتوسّع الإقليمي والإرهاب. كما ترفض واشنطن حتى اليوم «تقسيط» التفاهم، أي الموافقة في المرحلة الأولى على العودة إلى اتفاق فيينا بلا شروط، وإبقاء الملفات الأخرى قيد البحث في مراحل لاحقة.


اللافت، تزامناً، هو صدور مواقف متشدّدة إزاء الملف الإيراني، عن الحزبين الجمهوري والديموقراطي على حدّ سواء. وفي هذا السياق، زار وفدٌ من الكونغرس، يضمّ الحزبين فيينا أخيراً، لحضور أنشطة تتعلق بتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية.


وخلال الزيارة، أطلق أعضاء الوفد من الحزبين، مواقف حازمة تجاه إيران، ومنهم السيناتور الديموقراطي بن كاردن، عضو لجنة العلاقات الخارجية، الذي قال: «كلنا متوافقون في هذا الملف. وليس على الولايات المتحدة أن تعود إلى اتفاق 2015 من دون شروط. فالمعطيات التي كانت قائمة حين جرى التفاوض عليه تبدّلت. ويجب الأخذ بالمعطيات التي نشأت حالياً».

 

ويرى المراقبون، أنّ واشنطن تعتمد سياسة العصا والجزرة مع إيران. ويعتقدون أنّ إيران ستعاني في المواجهة مع بايدن أكثر مما عانت مع ترامب. ولاحظوا أنّ علاقات واشنطن بحلفائها الإقليميين، ولا سيما منهم إسرائيل والمملكة العربية السعودية، قد تحسنّت في شكل ملموس في الأسابيع الأخيرة، وأنّ إدارة بايدن بدأت تتجاوب مع هواجس هذين الحليفين تجاه أنشطة إيران وأذرعتها، من شاطئ المتوسط حتى اليمن.


هل في هذا السياق يأتي رفع واشنطن منسوب الضغط حالياً ضدّ أركان السلطة في لبنان؟ وتالياً، التنسيقُ المستجدُّ والمكثّف بين الثلاثي واشنطن- باريس- الرياض، لإدارة الملف اللبناني، ومقاطعة التركيبة القائمة حالياً في السلطة، والتي تحظى بدعم إيران؟
المراقبون يعتقدون أنّ المنازلة الكبرى بدأت بين المعسكرين: إيران في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. وستكون ساحات الشرق الأوسط مفتوحة لها، من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن وسواها. وسيكون متاحاً لإسرائيل أن تدخل على خط النزاع حيث تشاء وتستطيع الاستثمار.


سيغرق المعسكران في تنازعٍ على النفوذ في «الهلال» الذي تريده إيران شيعياً أو فارسياً. ولبنان فيه هو الرأس. والواضح أنّ بايدن حسم أمره في لبنان: النفوذ فيه ليس لإيران!

 

وعلى الأرجح، سيكون السلاح الأقوى في هذه المواجهة هو المال والاقتصاد، أي إنّ الحرب ستكون باردة. ولكن، هل من ضمان بأنّها لن تصبح ساخنة في بعض فصولها؟