مهما كانت السيناريوهات المتداولة سلبية، هناك من يعتقد أنّه لم يتوافر بعد من يُنزل البعض عن عرشه، فالمواجهة مستمرة أياً كانت الكلفة على لبنان واللبنانيين. وما يعزز هذا التوجّه، انّ المعنيين بفكفكة العِقَد الحكومية يعرفون ذلك، ويصرّون على أنّهم يعيشون بين المظلومين ليرموا التهمة على خصومهم، وهو ما دفع بالمنظمات الأممية الى تكثيف اجتماعاتها لترقّب النتائج المتوقعة على استمرار الستاتيكو القائم، خوفاً من خريف أحمر بعد صيف حار. فلماذا وكيف؟

على عكس الشلل الذي اصاب معظم الوزارات والمؤسسات العامة او تلك التي أُصيبت بالعجز عن تأدية واجباتها، وتراجع حضور الموظفين الى مكاتبهم الى النصف في بعض المؤسسات، وبنقص حاد يقارب الـ 35 % في البعض منها بالإضافة الى فقدان القرطاسية من ورق وأقلام وحبر والبطاقات الذكية التي كانت معتمدة في وزارة العمل للعاملات والعمال الاجانب، فإنّ المؤسسات الأممية المعنية بشؤون الإغاثة، تشهد ورش عمل كبيرة جنّدت لها خبراءها والمتعاقدين معها، من ممثلي الجمعيات والهيئات المتخصّصة، لوضع السيناريوهات التي تترقب ما هو آتٍ، على ضوء سلسلة من التقارير التي تتحدث عن انهيارات متتالية في أكثر من قطاع.

 

ليس في ما سبق ما يدعو إلى الإستغراب. فكل التقارير المرفوعة إلى المسؤولين الكبار بلا استثناء، من اجهزة الرصد والتعقب، استباقاً لأي حدث ما، تحاكي المستقبل القاتم، ما لم يجرِ تدارك الأمور لوقف النزيف الحاد ولجم التدهور الذي يتوالد يومياً ويتمدّد بنحو دراماتيكي ومتسارع لا قدرة لأحد على وضع حدّ له. وفي مقابل تجاهل ما تقترحه هذه التقارير من مخارج وحلول، حملها الوسطاء الى المعنيين بأطراف الأزمة، لم يتغيّر أداء اي منهم، فتعبر الأسابيع والأشهر من دون ان يخطو اي منهم خطوة تمهّد الى التلاقي بين المتخاصمين، في انتظار امر ما، ما زال مجهولاً لم يتمكن علم الغيب من كشفه والإحاطة به.


وطالما أنّ سياسة الإنكار ما زالت قائمة على مستوى أهل الحكم لمجرد المضي في تبادل الاتهامات في السرّ والعلن، ومعها المواقف المتشنجة التي خرجت عن المألوف في الحياة السياسية والحزبية التي تذكي النزاع القائم، سعياً وراء كسب طائفي او مذهبي او سياسي لا تبرير له سوى للتعبير عن وجود من لم يستوعب بعد النتائج المترتبة على آلية العمل «السلحفاتية» القائمة، فإنّ عدداً من مؤسسات المجتمع الدولي وممثلي الهيئات المانحة تترقّب ما هو منتظر من ترددات، قد تجعل الوضع أصعب بكثير مما هو عليه اليوم. وخصوصاً عندما تنتفي وسائل المعالجة المقترحة في الداخل كما في الخارج وفي الكواليس الاقليمية منها والدولية، التي تسارعت وتيرتها في الأيام الماضية بين عدد من العواصم الكبرى. وكل ذلك بات ثابتاً لا يخضع لأي نقاش إن بقي اهل الحكم على عنادهم، متجاهلين سلسلة التحذيرات التي لم يعد ينفع تكرارها بعدما صُمّت الآذان لدى القادرين، وبعد عجز الآخرين عن الأخذ بها وتطبيقها، بوجود قوة قاهرة ليست خافية على كثر، كبّلت عدداً منهم وجعلتهم اسرى ارتهاناتهم تحت سقوف حمر لا يمكن تجاوزها لا في الصلاحيات ولا في الأدوار.

 

وأمام هذا العجز الرسمي المتمادي، تتحدث الأوساط الديبلوماسية عن مجموعة من ورش العمل، تقودها منظمات أممية وإقليمية ودولية، للبحث في ما يمكن القيام به وإرشاد المجتمع الدولي إليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعدما عجز اللبنانيون في حراكهم عن انتاج حل لبعض المعضلات، يشكّل اولى الخطوات المطلوبة على طريق التعافي والإنقاذ. ولذلك، توقفت المراجع المعنية امام مضمون تقرير منظمة «اليونيسيف» المخيف، عن نسبة الجوع والفقر في لبنان، لتدل الى أبرز القضايا المطروحة على طاولات الهيئات المانحة، في ظل مخاوف جدّية من استمرار حال الشلل وتطوره الى ما هو أخطر بكثير من مظاهر الأزمة التي برزت حتى اليوم.


فعلى سبيل المثال لا الحصر، يبدو أنّ على طاولات الهيئات الانسانية التي انتجها الحراك الدولي الاخير الذي تقوده فرنسا دون كلل او ملل، أكثر من سيناريو لتدخّل دولي لا بدّ منه، في لحظة ينفلت فيها الوضع ويخرج عن السيطرة. ولا يتردّد احد المعنيين بما هو مقترح، أنّ مثل هذه التوقعات السلبية لم تعد بعيدة، وهو أمد يُقاس ربما بنهاية الصيف الذي يمكن ان يشهد حركة انتعاش محدودة النتائج، من دون ان يكون لها اي امتدادات ايجابية على المدى البعيد. فإذا لم تفرمل الإجراءات المتخذة في الداخل والخارج ما يجري من أحداث، فإنّ حالاً من الفلتان الأمني والاجتماعي والصحي نتيجة تطورات «دلتا الكورونا» المتحورة «هندياً»، قد يكون امراً واقعاً كنتيجة حتمية لفقدان الخدمات الصحية والطبية والوقائية، وتلك العامة، التي طالب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بإعطائها العناية الدولية التي تستحق.

 

كل ذلك يجري، على وقع التحضيرات الجارية للمؤتمر الثالث الذي تعمل من أجله وترأسه فرنسا في 20 من تموز الجاري، على رغم مما تتعرّض له مبادرتها من انتقادات لبنانية تسخّفها وتعيدها الى ازمات داخلية يعيشها ماكرون في بلاده، كما تلك التي تعرّضت لها من دول محور الممانعة ومن يتبنّاها، في مقابل ما لقيته من دعم تقدّمته دعوة بابا الفاتيكان الى التحرّك لإنقاذ لبنان، والتي أثمرت حراكاً ثلاثياً اميركياً ـ فرنسياً ـ سعودياً ما زال في مرحلة إقلاعه، من خلال اللقاءات التي عقدتها السفيرتان الأميركية دوروتي شيا والفرنسية آن غريو في الرياض الأسبوع الماضي، واستُكملت في مقر السفارة السعودية في بيروت منذ نهار امس، بحثاً عن آليات تطلق خطط الدعم للشعب اللبناني، بمعزل عن حكومته والمؤسسات الحكومية المشكوك في صدقيتها وفقدان ادوارها وعجزها عن القيام بما وجدت لأجله.


وعلى هذه الخلفيات، تحتسب الهيئات الأممية ما سيكون عليه الوضع مع بلوغ الخريف المقبل من احتياجات لتأمين حاجيات موسم الشتاء وانطلاقة السنة الدراسية، في ظل أوضاع المدارس والمؤسسات العامة والخاصة المزري بلا كهرباء ولا محروقات وفقدان مقومات صمود تتزامن مظاهرها مع الغلاء الفاحش واختفاء الدواء والغذاء، وربما انهياراً متزايداً في أسعار العملة الوطنية الذي يفقد أكثر من ثلثي الشعب اللبناني قدرته على التكيّف مع ما هو متوقع، ويشرّع البلاد على مظهر من مظاهر الدول الفاشلة بما لها من تبعات اجتماعية وانسانية وربما امنية، في وجود مليوني لاجئ ونازح سوري وفلسطيني ومن جنسيات مختلفة.