ان الحروب لا توفر سلاما بل تغذي التعصب، والتعصب وليد التطرف، وهذا التطرف اذا انتقل من التفكير الى التنفيذ صار عنفا. واذا ضرب العنف عشوائيا تحول الى ارهاب، والارهاب نقيض الدولة. وامضى سلاح في مواجهة الارهاب والتطرف والاستبداد هو الثقافة، وليس كل من امتلك المعلومة اصبح مثقفا فالثقافة سلوك ونمط وطريقة حياة ومعرفة. والمعرفة سلطة، وليس كل سلطة هي معرفة وثقافة.
 

  الرضوخ الطوعي للدولة امام بعض الفئات، التي جاهرت احداهن بمصطلحات العزة والشرف والكرامة واحتكرت تمثيل الطائفة وحقوقها وصارت نموذجا وطموحا لمثيلاتها، فحذوا حذوها، وتمنوا ان ينجحوا مثلها، سرا وعلانية. ولمّا فشلوا حاولوا ان يتماهوا بها مثل اعتمادهم مقولة "الممثل القوي في طائفته "، وضاعت هذه الجهود بين الوهم والحقيقة. لكن هذا الوهم يُسَكّن احيانا اوجاع البعض، لكنه لا يشفيها لانه بكل بساطة ليس دواءً، انه وهم. والوهم مهما كبر وانتفخ وسيطر يبقى وهمًا، والحقيقة مهما صغر الحيز الذي تشغله وتضائلت المساحة التي تظهر فيها تبقى حقيقة.

 

 

    في دولة منهوبة يحدث الانهيار بسرعة اكبر من ان يحده خطاب ما، او نظرية  مثل التوجه شرقا. ان مشاهدة مئات الضحايا الذين يسقطون في الماء حيث يغرق بعضهم ويتم انتشال البعض الاخر من زوارق الموت وهم يحاولون الوصول الى الغرب هربا من جحيم الشرق  وبحثًا عن حياة افضل؛ هل هذا وهمٌ أم حقيقة؟  ام ان الشرق  الذي يُدعى له موجود في الغرب؟ لله الشرق والغرب. ولماذ لا يتّجه احد الى الشرق الذي هو في الشرق؟ لانه كالمستجير من الرمضاء بالنار. 

 

 

     ان الاكثرية الشعبية التي تبدو صامتة، وعابرة للطوائف، ومتحررة من العصبيات و"الهويات القاتلة"، ظهرت بقوة في  17تشرين، وهي صاحبة المصلحة في التغيير وتفعيل الدولة المدنية وهي الاكثرية حقيقةً. اما الوهم فهو التيارات المؤدلجة  والمدبلجة المنتشرة كتيارات تثير زوابع  وعواصف  وقلق، مَثَلها كمثل الذي يزرع الريح ليحصد الهواء والخواء. ولالغاء المسافة بين ما يدعون له، وما يحصلون عليه ، يعمدون الى تبرير فشلهم  بالقاء اللوم على الاخرين. وليس مستغربا عندما يتبع سائق الحافلة  اوامر من لا يرى  ان تصل الحافلة بركابها الى جهنم.

 

 

إقرأ أيضا : هجرة الموركس ... علي العطّار

 

 

   ان الذي سقط هو المنظومة المتحكمة التي ادارت البلاد بعقلية العصابة. فهي تتشكل من قوى منشؤها طائفي، تأخذ الدستور الى مجالها الخاص لتفسره وفقا لرؤيتها عبر دمى يجتمعون في "لويا جيرغا"، بنسخة لبنانية. وللمفارقة ان بيروت ذات الشهرة الواسعة في العالم القديم، كانت المركز الأهم للتشريع في الامبراطورية الرومانية. وكان ايفرغوس، رئيس معهد القانون آنذاك، مشرعا صالحا ومتقشفا يصوم عن اكل اللحم، وسلوكه  هذا اثّر على الامبراطور سفيروس فاقتدى به. لذلك اطلق على بيروت ام الشرائع. واليوم مع هذه  الدمى، صارت بيروت ام العشائر.

 

 

   يقول جبران خليل جبران- ذكرنا اسمه كاملا حتى لايحصل التباس-: بين منطوق لم يقصد ومقصود لم يُنطق تضيع الحقيقة.

 

 

   عقلك هو مرشدك ، فكّر وآمن  ثم حقق بالعمل ما آمنت به. نحن نصبح ما نفكر فيه. لا يوجد وقت لمن يتهدده الخطرللبحث في نوعية طوق النجاة. ان الحروب لا توفر سلاما بل تغذي التعصب، والتعصب وليد التطرف، وهذا التطرف اذا انتقل من التفكير الى التنفيذ صار عنفا. واذا ضرب العنف عشوائيا تحول الى ارهاب، والارهاب نقيض الدولة. وامضى سلاح في مواجهة الارهاب والتطرف والاستبداد هو الثقافة، وليس كل من امتلك المعلومة اصبح مثقفا  فالثقافة سلوك ونمط  وطريقة حياة ومعرفة. والمعرفة سلطة، وليس كل سلطة هي معرفة وثقافة. كان غوبلز، وزير دعاية هتلر، يقول: "كلما تناهى الى سمعي كلمة ثقافة تحسست مسدسي".

 

 

    نحن نصنع ما  نفكر فيه. وبالرغم من الانهيارات المتسارعة على الصعد كافة، وبقليل من العقل الفعّال والامل، نحمل شعاعًا من شمس تشرق لتبدد ليلًا ارخى سدوله بانواع المصائب والهموم. يستطيع هذا الشعاع، انطلاقًا من حاضرٍ مرير، وماضٍ عظيم، اعادة الحياة والفرح لشعبٍ عانى الكثير.