لا يزال رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط يراهن على التسوية ويتمسّك بها كمدخل إلزامي لتشكيل الحكومة ومقاربة الملفات الاقتصادية والاجتماعية بشكل سليم.

يشكّل باسيل حاجة لـ«حزب الله» ومشكلة في آن معاً، لأنه لا يتعامل مع حالة سياسية مؤمنة بخط الحزب الاستراتيجي من أجل ان يقول لها «مْسَحيها بهَيدي الدقن»، إنما حالة مشروعها سلطوي بامتياز وتحالفت معه على قاعدة تبادل خدمات وأدوار، وفي اللحظة التي ينتفي فيها هذا التبادل يسقط «تفاهم مار مخايل» تلقائياً.

 

ولا يتعامل الحزب مع حالة سلطوية من الفئة العادية إنما مع فئة متطلّبة ولا تقبل بالقليل، من منطلق أنّ تغطيتها للسلاح خطوة كبيرة يجب ان تقابَل بخطوة من الوزن نفسه، وما يحصل اليوم في الملف الحكومي من «تَنتيع» هو بنكهة رئاسية وبروفا تمهيدية لِما يمكن أن تشهده الانتخابات الرئاسية، والخلاف حول التأليف لا علاقة له بدور الحكومة، إنما يرتبط عضوياً بالاستحقاق الرئاسي المقبل.

 

والاهتمام بالانتخابات الرئاسية يتجاوز باسيل إلى الرئيس ميشال عون مباشرة، والذي سيصل إلى مرحلة يضع فيها «حزب الله» أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا دعم ترشيح باسيل، وإمّا فك التحالف بين التيار والحزب، ولا شك انّ الأخير في مأزق للأسباب الآتية:

 

أولاً، لأنّ حليفه داخل البيئة الشيعية الرئيس نبيه بري يقف بالمرصاد ضد باسيل، وكان قد وقف قبل ذلك ضد عون، وسيكون موقفه أشد قسوة من السابق بعد تجربته المُرّة مع العهد الحالي، ويُدرك الحزب انّ دعم ترشيح باسيل قد يُثير انقساماً شيعياً لا يريده لأنه يُضعف موقفه وتموضعه ووضعه، علماً بأنّ السيد حسن نصرالله كان قد وجّه في إطلالته الأخيرة رسالة لحليفه المسيحي في منتهى الوضوح، قال له فيها: «إنّ باسيل يعرف طبيعة العلاقة، وهو أذكى من الإقدام على التفريق بين الحزب والحركة». وبالتالي، كيف سيتعامل مع موقف بري في حال قرّر ترشيح باسيل؟ وهل بري في وارد التساهل مع ترشيح من هذا النوع؟

 

هناك إشكالية حقيقية ولن يتمكّن «حزب الله» من معالجتها، وفي حال وصل إلى خيار من اثنين: إمّا الطلاق مع عون او الطلاق مع بري، فسيختار بالتأكيد الطلاق مع الحالة المسيحية العونية، لأنّ وحدة الصف الشيعي من الخطوط الحمر الأساسية التي تتعلق بأمنه ودوره وحضوره.

 

ثانياً، لأنّ دعم باسيل ستكون له تداعيات على الساحة السنية التي يحرص على التبريد معها في الوقت الذي تحرص فيه هي أيضاً على التبريد معه. وبالتالي، لن يكون من مصلحته استفزازها في ترشيح يُعيد التسخين السياسي السني-الشيعي، خصوصاً انّ باسيل حوّل نفسه من خلال ممارسته إلى عنوان استفزازي لهذه الطائفة.

 

هذا من دون الأخذ في الاعتبار الجانب الإقليمي في العلاقة بعد عودة التفاوض السعودي والإيراني وعلى رغم تَعثُره الحالي، إلا انّ اي اشتباك من هذا القبيل ستكون له ارتدادات خارجية وغالباً ما يحصل بقرار إيراني.

 

ثالثاً، لأنّ حليفه سليمان فرنجية وافقَ، على مضض، على الانسحاب لعون بفِعل الأقدمية في العمر وفي الترشيح، ولكن ما ينطبق على عون لا ينسحب على باسيل، خصوصاً انه يحظى بدعم بري وقوى سياسية أخرى في الداخل والخارج. وبالتالي، دعم الحزب لباسيل لن يكون وَقعه سهلاً على فرنجية.

 

رابعاً، لأنّ دعم ترشيح باسيل يتعارض مع مزاج الرأي العام اللبناني الذي انتفض في 17 تشرين، ما يعني انّ اي دعم من هذا النوع ستكون له ارتدادات شعبية سلبية على «حزب الله»، وليس من مصلحة الحزب ان يضع نفسه في مواجهة شريحة واسعة من اللبنانيين.

 

خامساً، لأنّ عواصم القرار العربية والغربية لا تنظر بارتياح الى العهد الحالي، ولن تُبارك ترشيح باسيل المُعاقَب أميركياً على رئاسة الجمهورية، فيما يتعامل الحزب مع هذه العواصم ببراغماتية فائقة، إذ يقف ضدها لأسباب مبدئية وعقائدية وسياسية، ولكنه يقوم بكل ما يلزم تسهيلاً لدورها في لبنان الذي لا يستطيع ان يتنفّس من دون الاوكسيجين العربي والغربي، وهذا الاوكسيجين هو الذي يَتّكئ عليه الحزب من أجل الحفاظ على الستاتيكو الراهن الذي يمسك فيه بمفاصل القرار الاستراتيجية للدولة اللبنانية.

 

فلكلّ هذه الأسباب وغيرها طبعاً ليس من مصلحة «حزب الله» دعم ترشيح باسيل لرئاسة الجمهورية، ولكن ماذا عن سلبيات رفضه دعم هذا الترشيح:

أولاً، يخسر الغطاء المسيحي السياسي لسلاحه ودوره، ويخسر الغطاء الرئاسي، ويخسر الثلث المعطِّل أو الأكثرية التي نجح بتأمينها عبر هذا التحالف، وسيكون مضطرّاً للعودة إلى مربّع الفيتو الشيعي.

 

ثانياً، يخشى من انتقال التيار العوني-الباسيلي من موقع الحليف إلى موقع الخصم، فيكون في معرض زيادة خصوماته، لأنّ التيار على نسق الحزب يلعب على طريقة «يا مَعي يا ضدّي»، وبشكل عملي أكثر «إمّا مع ترشيحي للرئاسة الأولى وإمّا ضده»، وبناء على طبيعة الموقف يتحدّد موقف التيار من الحزب.

 

ثالثاً، يخشى من تَوسّع «القوات اللبنانية» وتمددها، خصوصاً انّ خصومته معها استراتيجية وعقائدية، ويُدرك انه التنظيم الوحيد في لبنان الذي يملك تنظيماً حديدياً ويستحيل الالتقاء معه. وحيال هذه الخشية لا يجد سوى باسيل قادراً على مواجهة «القوات»، لأنّ كل القوى والشخصيات الأخرى ضعيفة وغير قادرة على التصدي لها، وهو لا يخشى من تمدّدها المسيحي فقط، بل من خطابها العابر للطوائف وعلاقة الثقة بينها وبين عواصم القرار العربية الغربية انطلاقاً من ثباتها في دعم مشروع الدولة. وبالتالي، هناك حالة متكاملة يجب بنظره مواجهتها من مربّع مسيحي، والأقدر على ذلك هو باسيل، وهذه إحدى وظائفه الرئيسية وحاجة الحزب له.

 

رابعاً، يخشى من خسارة حليف له حَيثيته المسيحية التمثيلية ولا يقف عند حدود سيادة ودولة واستقلال وحياد، وكل همّه سلطته ودوره، الأمر الذي يتناسب تماماً مع مشروع «حزب الله» السياسي في الحفاظ على دوره وسلاحه. فما بين أولوية الحزب المتمثلة في سلاحه، وأولوية التيار المرتبطة بسلطته، هناك مصلحة مشتركة بينهما: السلطة مقابل السلاح، وهذه القاعدة يتبعها مع جميع حلفائه.

 

خامساً، يخشى من خسارة حليف يحتاجه أحياناً لمواجهة الحالة السنية بالنيابة عنه تَلافياً لفتنة سنية-شيعية، وهو حليف أقرب إلى الشيعية السياسية منه إلى الميثاقية اللبنانية.

 

فلكل هذه الأسباب وغيرها لن يكون من السهل على «حزب الله» دعم ترشيح جبران باسيل لرئاسة الجمهورية او عدم دعم ترشيحه. وبالتالي، سيكون أمام تحدٍ ومفترق مفصلي، وقد تكون هذه المرحلة صعبة ودقيقة وخطيرة للغاية.

 

لا يتعامل الحزب مع حالة سلطوية من الفئة العادية إنما فئة متطلّبة ولا تقبل بالقليل