ان الحياة مع الظالمين برما، ومع هذه المنظومة باتت مستحيلة في هذا الوطن المقتول بيد زعمائه ومسؤوليه، والمتروك من مواطنيه الذين ادخلوا في عزلة باتوا معها اشبه بسكان المناطق الباردة حيث يدخلون في سبات عميق، لا يستيقظون الا مرة واحدة في اليوم لاستهلاك قطع صغيرة من الخبز وبعض الشراب، ثم يعودون الى النوم . وفي ظروف تنعدم فيها سبل البقاء على قيد الحياة، يدخل الكثيرمن الاحياء في سبات عميق.
 


 تتنافس الطوائف اللبنانية في اظهار المظلومية، وتزداد حاجة كل طائفة الى تصديق مظلوميتها واقناع الآخر بها. وحين لا تدرك مبتغاها يتفاقم شعورها بالحرمان، ويبدأ العزف المنفرد على ايقاع؛ مناطق محرومة... انت مين؟... ما خلونا! مستعينين بقوة السلطة  التي استحوذوا عليها، وضعف الدولة التي غيّبوها بعد أن "هتكوها".

 

 

    يحدث هذا على وقع شعارات التعايش والحوار بين الطوائف واحزابها، وبين الأديان ومندرجاتها، والمفاخرة بالتنوع اللبناني. هنا يُطرح السؤال؛ هل المشكلة في تعصّب الأفراد لهويّاتهم الدينيّة؟ وهل الانتماء لهذه الطوائف والمذاهب كالانتساب الى جمعية ما، او كإنشاء حساب على وسائل التواصل حيث الحصول على عدد متابعين أكثر يدنيك من جنّة الحكم؟ كأن بعض الفهّامين المتبحّرين ينسَون، او يتناسون، ان الله أراد للاديان ان تكون اساسا لتعارف البشر وتفاهمهم، وليس سببا لشقاءهم، وفقرهم. وأنّ النظام السياسي والاجتماعي ليس من انتاج الطبيعة، بل هو نتاج اتفاقيات وتفاهمات بين مكونات المجتمع.

 

 

   يقال أن الناس على  دين ملوكهم، وهذا صحيح. لكن أين الملوك؟ وأين وزرائهم؟  قد أَخَذَنا الظن بأحدهم أنّ انفجار الرابع من آب، الذي هزّ العالم، قد هزّه أيضًا. لكن رؤيته لاهثًا لتسجيل عقار، عقب الانفجار، تؤكّد أنّ بعض الظنّ إثم.

 

 

    قبل الحرب الأهلية كانت الطوائف ترفع مطالبها الى الدولة ضمن الانتظام العام الذي كان سائدًا مع بعض الخلل الذي لا يخلو منه أي نظام في العالم. ومع غلبة الطوائف وسيطرتها، وتحولها الى مراجع سياسيّة لاتباعها، انقلبت الآية، فضعفت هيبة الدولة وخضعت لمنطق الطائفة ورضخت لها، الأمر الذي أدى الى تشظّي الدولة لأجزاء معدّة للالتهام على موائد امراء الطوائف. وعزّز ذلك الفرز الديموغرافي  ونمو الخطاب الطائفي والمذهبي، المبني على التفتيت وتطييف المناطق، وانتشار ثقافة القطيع حيث باتت الاحياء حظائر لا ينقصها الا "باب الحارة"، الذي وُضع على مدخل احدى البلدات. في الواقع لا يوجد مياه مارونية، ولا كهرباء سنيّة، ولا طرقات شيعيّة، ولا مناطق محرومة، وانما هناك مناطق أقل نموًا، وافرادًا اكثر فسادًا، وهم أقليّة، وهناك أكثرية صامتة، خائفة اومتأملة بدور انقاذي لاحزاب لم يأكل الدهر منها ولم يشرب لانها لم ترتقي بالعمل السياسي وبقيت خارج العصر. فدورها من الاساس ملتبس؛ تتأرجح بين العشيرة والقبيلة والاسرة الممتدة والاسرة النووية، والاسرة المتشظية. وتجمع بين الانتماء المناطقي والطائفي والوطني والأممي. ومع انحسار الايديولوجيا وانتشار التكنولوجيا أدى الخلل الأيديولوجي الى خلل عقلي.

 

 

إقرأ أيضا : هذه سلطتي .. علي العطّار

 

 

 

     ان الحياة مع الظالمين برما، ومع هذه المنظومة باتت مستحيلة في هذا الوطن المقتول بيد زعمائه ومسؤوليه، والمتروك من مواطنيه الذين ادخلوا في عزلة باتوا معها اشبه بسكان المناطق الباردة حيث يدخلون  في سبات عميق، لا يستيقظون الا مرة واحدة في اليوم لاستهلاك قطع صغيرة من الخبز وبعض الشراب، ثم يعودون الى  النوم . وفي ظروف تنعدم فيها سبل البقاء على قيد الحياة، يدخل الكثيرمن الاحياء في سبات عميق.

 

 

   الضد يظهر سوءه الضد، لذلك لا يشعر البعض بالتعاسة لأنهم لا يعرفون طعم السعادة أصلًا. نختنق ونحن نتنفّس. نبحث عن سفينة تنجّنا من الشرير، ولا خيار لنا الا البقاء والبحث عن وسيلة لمواجهة القابضين على أزمّة الأمور بشرعية أعطيت لهم  بانتخابات جرت وفق قانون فصّلوه على مقاسهم ليعيد انتاجهم، ويحفظ مراكزهم، فكانت اللعنة. 

 

 

   لا يوجد اعمى اكثر ممن لايريد ان يرى. انّ مشهد الانتخابات الطلابية في الجامعات التي جرت منذ بضعة اشهر، والفوز الساحق الذي حققه النادي العلماني مقابل لائحة الاحزاب، وقبلها انتخابات نقابة المحامين، واليوم النصر الكاسح  الذي حققته قوى الانتفاضة في انتخابات نقابة المهندسين على احزاب السلطة التي حاولت تاجيل الانتخابات مرارًا، خوفا من نتائجها، يؤكد ان التغير قد بدأ. 

 

 

   بلغ السيل الزبى، ولكن من يستثمره ويبني عليه؟ ان قوى المجتمع المدني تتحمل مسؤولية تاريخية في رسم خارطة طريق واضحة لتحقيق التغيير المنشود من خلال الاستحقاقات القادمة، وعليهم البدء منذ الآن في الاعداد لها، والاصرار على اجرائها، والابتعاد عن التحليلات الضيقة والحسابات البسيطة التي ترتدي تارة ثوبا اكاديميا، وطورا دراسات ميدانية انتقائية لا تغني ولا تسمن. فالمطلوب لانزال الوطن المصلوب بارادة بنيه، هو الخروج من حسابات "الدكنجية"، والارتقاء بالعمل الاجتماعي الى مستوى يتناسب مع ما وصل اليه العقل الانساني. والبلاد زاخرة بقامات وهامات تأكل لتعيش ولا تعيش لتأكل.