صُدِم أركان السلطة بنتائج انتخابات نقابة المهندسين. لم يتوقعوا أن يكون وَضْعُهم هناك خَطِراً إلى هذه الدرجة. واستنتجوا أنّ «شدَّ العصب» الطائفي الذي مارَسوه، ومحاولاتِهم للتبرؤ من الانهيار لم تكن كافية. وفيما كانوا يفتِّشون عن طريقة لتبليع الناس جرعات الوجع الآتية قريباً، جاءتهم الضربة في النقابة. وكما تفعل أيُّ أفعى، لجأوا إلى العَضّ على الجرح، وبدأوا التحضير للانتقام.
 
بعد هزيمة الأحد، استُنفِرت أحزابُ السلطة وتياراتُها. واستُدعي المسؤولون الحزبيون عن الهزيمة لمناقشة ما جرى، والمحاسبة. ولكن، على المستوى السياسي، بدأت هذه الأحزاب تجهّز الخُطط لاستيعاب أي «انتفاضة جديدة»، بالتكافل والتضامن في ما بينها، كما فعلت لإحباط انتفاضة 17 تشرين ونجحت، على رغم النكسة التي تعرَّضت لها آنذاك في نقابة المحامين.

 

أحزاب السلطة تلعب اليوم «صولد»، لأنّ المرحلة حسّاسة بالنسبة إليها، وستُقرِّر مصيرَها: الحياة أو الموت. لكن هذه الأحزاب ليست شديدة القلق، لأنّ تجربة إسقاط الانتفاضة السابقة كانت ناجحة. وهي ترى أنّ أمامها فرصاًَ واسعة للنجاة، ما دام المحور الإيراني يمتلك أوراقاً فاعلة في لبنان.

 

تدرك قوى السلطة أنّ المنازلة الحقيقية مع قوى الاعتراض لن تقع قبل عامٍ تقريباً، أي قبل الانتخابات النيابية. وحتى ذلك الحين، سيكون أمامها الوقت الكافي لتجهيز العدَّة للانتصار وإعادة إنتاج نفسها، وتعطيل أي تغيير. وبعد ذلك، تقوم الغالبية النيابية باستيلاد «حكومتها» المناسبة ورئاسة الجمهورية خلال أشهر قليلة، أي قبل الخريف.

 

وحتى ذلك الوقت، لن تكون هناك فرصةٌ أمام قوى المعارضة لتحقيق الانتصارات، ولو فازت بانتخابات نقابية. والرهان على صفقة دولية تُضعِف إيران وترفع نفوذها عن القرار في لبنان لا يبدو مضموناً، وفق ما توحي به مناخات فيينا. ولذلك، لن تحظى الانتفاضة أو قوى التغيير في لبنان بأي دعم خارجي حقيقي. وسيكون سهلاً ضربُها وإحباطُها، كما انتفاضة 17 تشرين وبالوسائل إيّاها.

 

في الدرجة الأولى، تمنع قوى السلطة أي انتخابات نيابية مبكرة، لما قد تُسبِّبه لها من إحراج غير محسوب. وإذا وجدت نفسها مضطرة إلى إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، بعد عام، فإنّها ستلعب ورقة قانون الانتخاب. ومعروف أنّ القانون الحالي، وباستثناء عدد محدود من الخروقات، لم يمنح قوى المجتمع المدني تحقيق أهدافها بتشكيل كتلة وازنة في المجلس النيابي.

 

ومع أنّ القانون الحالي يُعتبر أفضل من سابقاته لجهة تمثيل المجموعات الطائفية، فإنّه لم يفتح الباب لقوى المجتمع المدني لكي تُحقِّق الخروقات. واليوم، تُريد القوى الحليفة لإيران تغيير القانون الحالي ليعود أشدّ احتكاراً طائفياً. وهذا يعني تلقائياً إقفال آخر أبواب التغيير أمام قوى الاعتراض المدنية أيضاً.

 

ستلعب قوى السلطة ورقة قانون الانتخاب كابتزاز، حتى النهاية. فإذا لم تكن مطمئنة إلى نتائج أي انتخابات، ستكون العدَّة جاهزة لتطيير الاستحقاق عاماً على الأقل، أي إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية. والذرائع كثيرة و"مقنِعة" في هذا الشأن. وربما يتمّ اعتماد هذا القرار باكراً، لأنّ حال الاهتراء يمكن أن تقود البلد إلى مجهول لا يمكن أحد أن يتصوَّره. وفي هذه الحال، سيتعذّر اتخاذ قرارٍ حتى بتأجيل الانتخابات.

 

عندما يتمادى البلد في الاهتراء المالي والنقدي والاقتصادي، سيعتكف موظفو الإدارة عن أدوارهم، بسبب اضمحلال رواتبهم التامّ وعدم قدرتهم على بلوغ مراكز أعمالهم. ولن يكون المال متوافراً لفتح اعتمادات للعملية الانتخابية. ولن يسمح الاحتقان الشعبي بدخول البلد أجواء عملية انتخابية.

 

والأخطر، هو أنّ هذا الاهتراء قد يرشِّح الوضع لاهتراء أو انفجار أمني يصعب تقدير تداعياته، ولا يتيح إجراء الانتخابات طبعاً. كما أنّ مناخات من هذا النوع سيسيطر فيها الشحن الطائفي والمذهبي. وهذا الشحن تستفيد منه قوى السلطة، لكنه سيؤذي القوى التغييرية التي تبني أرضيتها من خلال اجتذاب القواعد الطائفية إلى المواقع اللاطائفية.

 

وقد تكون ورقة «شدّ العصب» الطائفي هي الورقة الأكثر جهوزية لدى قوى السلطة، وهي لطالما استخدمتها عندما تُحشَر. وللتذكير، انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 كادت تتحوَّل- في شكل مفتعل- مواجهات ساخنة طائفية ومذهبية من مناطق الطريق الجديدة والكولا والخندق الغميق إلى الشياح - عين الرمانة وكاليري سمعان.

 

وقوى السلطة التي تمتلك كل عدّة الشغل الأمنية، مدعومةً بماكينات إعلامية منظَّمة، جاهزة لإدخال «أحصنة طروادة» إلى أي ساحةٍ يُراد «تأديبها» أو إحباطها. وهذه المهمَّة أثبتت نجاحها، ومن دون كثير من البنزين، ما دامت «الموتوسيكلات» تقوم بالواجب!

 

لذلك، يتداول كوادر أحزاب السلطة، أنّ ما جرى في نقابة المهندسين هو «انتكاسة ما كان يُفترض أن تحصل، ولكن لا داعي للهلع… وأمامنا الوقت الكافي لنشتَغِل شُغْلَنا»!

 

هل يعني هذا أنّ على قوى التغيير أن تستسلم؟ لا. فالانتصار ممكن على رغم كل شيء. وكما انطلقت انتفاضة 17 تشرين وفاجأت السلطة، وحشرتها، فمن الممكن أيضاً أن تحقق انتصارات جديدة.

 

ويكفي الانتفاضة أن ترسم خطة عملٍ موحَّدة، وأن تكون جبهة موحّدة للتغيير في مواجهة جبهة السلطة. ولكن، للإنصاف، سيكون الموقف الدولي حاسماً في ترجيح الكفّة في لبنان: لمصلحة إيران والسلطة التي تدعمها أم لمصلحة التغيير؟