أمّا زلّات اللسان فتكشف المستور من الكلام الصحيح غير المُباح به، فالتلعثم السياسي يُنبئ أن الصحيح هو ما يُعاد تصحيحه، وهو ما نُطق به أولًا. فبين البطاقة الإنتخابية والبطاقة التموينية مسافة سنة. ليست ضوئيّة. بل كوكبًا وأحد عشر شهرًا.
 

   يقف اللبنانيون اليوم أمام المرآة، فلا يرون إلا صورة الأمير عبد الله، آخر ملوك الأندلس، الذي سلّم غرناطة ليطوي صفحة من كتاب التاريخ، ويبكي كالنساء على ملكٍ لم يحافظ عليه كالرجال.

 

 

   تشكّل الحقيقة مع العجز قهرًا وفجيعة، تتمثّل اليوم بانقلاب حياة اللبنانيين، وتُظهر أن لبنان بات منعزلًا دون حياد، ومنحازًا بلا حلفاء. الفجيعة ليست وليدة اللحظة، وإن بدت كذلك، وفجيعة لبنان، بلبنان، بدأت بالحبوِ منذ عقود، وراحت تغرس مخالبها في جسد الإنتظام اللبناني وتنهش مؤسّساته تدريجيًا. وهي وليدة غير شرعية ناجمة عن تلاقي اجتياحات فكريّة مغلّفة بموجات منخفضة من التربية اللاوطنية التي أنتجت تفلّتًا من ضوابط الإجتماع اللبناني، ممّا سهّل الإنقلاب عليه والعبث به. يتمظهر هذا الخلل بالتغييب العمد للقواسم المشتركة التي تُجمع على التنوّع في إطار وحدةٍ لحَظَها ميثاق الـ 1943 ولم تلحَظها الأيديولوجيات التي تزاحمت آنذاك كصرعات الموضة والازياء. وقد تركت جروحًا عميقة في الجسد اللبناني، غير المحصّن كفايةً، عبّر عنها أمين عام منظّمة العمل الشيوعي، والأمين العام للحركة الوطنيّة اللبنانيّة، محسن إبراهيم، حيث قال؛ "لقد حمّلنا لبنان أكثر من طاقته واستسهلنا الحرب للتغيير". وهذا إقرارٌ واعترافٌ بالذنب الذي ارتكب بحق لبنان الدولة والنظام.

 

 

   إنّ فكرة الحياد وعدم الإنحياز التي قام عليها لبنان تعرّضت لنكسات كثيرة بفعل عوامل خارجية، كإتفاق القاهرة عام 1969، وعوامل داخليّة، عبّر عنها أحد السياسيين العصاميين بقوله؛ إن في لبنان الكثير من الحريّة والقليل من الديمقراطية. وبالرغم من هذا الضغط الذي تعرّض له النظام فقد قُيّضَ له آباءٌ شرعيون عملوا على استيعاب هذه الموجات، كالرئيس رشيد كرامي الذي ردّ على حملاتٍ شًنّت على الميثاق الوطني بدعوته للعمل لما يُغنيه ولا يُلغيه. ثم كانت مقولة الرئيس صائب سلام؛ "لا غالب ولا مغلوب" بعد أحداث 1958، واعتقاده بأن الأمور المُختلف عليها لا تُحل إلّا بالتفهّم والتفاهم.

 

 

   ينجح اللبنانيّون، وهم متفرّقون، في إقامة علاقاتٍ مع محتلّيهم حيث يفشلون في إقامتها فيما بينهم، في وقت كان فيه لبنان قادرًا على تحويل شعار عدم الإنحياز، و "لا شرق ولا غرب"، الى شرقٍ وغربٍ معًا وسويّة من أجل لبنان. ولعلّ الشيخ بيار الجميّل، مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، كان الأكثر قلقًا ودقّة في التعبير، حيث كان يردد دائمًا؛ أيّ لبنانٍ نريد؟

 

 

   وجاء إتفاق الطائف لينهي الإحتراب الأهلي ويضع أوزار الحرب. ذكر الدكتور إنطوان مسرّة في كتابه، "جذور وثيقة الوفاق الوطني"، أنّه لمّا كُلّف الوزير مروان حمادة باعداد المقدّمة السياسيّة للبيان الوزاري، وبعد انهائها، عرَضها على الرئيس رفيق الحريري، فوافق عليها كلّها، باستثناء ورقة واحدة رماها في سلّة المهملات قرب مكتبه. نظر الوزير حمادة اليه متعجّبًا ومتسائلًا؛ أين أخطأت يا دولة الرئيس؟ الصفحة كانت تتضمّن سطرًا واحدًا يؤكّد على المسلّمات الوطنية المبنيّة على إتفاق الطائف. فنظر دولته اليه وقال؛ " جاي على ذكر الطائف يا مروان؟! بدّك تروّحنا؟"

 

 

   إن الانهيار البنيوي للدولة والنظام يفوق بخطره أي إنهيار آخر. لقد أسقطوا مؤسساته، وعطّلوا قدراته ليعدّلوا دوره، ويغيّروا هويّته. لكن لبنان أكثر من وطن، إنّه رسالة، كما أكّد قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني في إرشاده الرسولي.

 

 

   لا أحد بخير، إلا الفاسدين والمهرّبين واللصوص والمحتكرين. هل نحن شعبٌ بلا ماضٍ، وحضارةٌ بلا تاريخ؟ فالآن، ينقصنا حاضرٌ لنرى أين نعيش. الإنهيارات تتوالى، ولسان حال الناس يقول؛ لا تغفر لهم يا أبتاه، فإنّهم يدرون ما يفعلون.

 

 

   مضى على اقرار اتفاق الطائف ثلاثة عقود، وهو دستور البلاد، وبدلًا من العمل به، وتطويره بعد تطبيقه، تحوّل الى نوعٍ من الممنوعات الأقرب الى المحرّمات، وصار من القيم الماضوية بدل ان يكون وسيلة ناجعة ومرجعًا للحكم والسلطة. وتحوّل الدستور بقدرة "المحلّلين الستراتيجيين" و"المتفيقهين" و"الهوائيين"، وما أكثرهم لدرجة يكاد المرء ينشئ نقابة لهم، وهلوساتهم الى حبل ذي عقد لا تنتهي ننقاد به. وكلّما مضينا محاولين الدفع الى الأمام، يضيق الخناق، ويشدّنا الحبل الى الوراء أكثر. وكلّما حللنا عقدة من ألسنتنا، وقبل أن يُفقَه قولُنا، يجتمع "مَلأُ العقد" وكأننا في البداية حيث هي النهاية.

 

 

   كان الرئيس فؤاد شهاب يقول أمام كل عقدة تتعقّد؛ ارجعوا الى الكتاب. أي الدستور. لكل شيئ دستوره، حتى أن الرجل يُخاطب الرجل على الطريق طالبًا منه الإبتعاد عن طريقه، فيقول "دستور".

 

 

   بعيدًا عن رحمة الله، هل تتعمّد هذه السلطة معاقبة اللبنانيين؟ إن مصيرنا يبدا من مسيرنا، فلماذا نبدو هائمين في بلادٍ "سائبة" لا طريق فيها الا طريق جهنّم.

 

 

   إنّ طريقًا تحكمها معادلة؛ أنت قل ما تشاء وأنا أفعل ما أشاء، هي بلا ريب أقصر الطرق الى جهنّم؛ ذلك الحيّز الجغرافي الذي لا حدود فيه ولا دستور، نسير فيه وفق نظرية دارون؛ البقاء للأقوى، فهل هذا هو العهد القوي؟ ولا أعتقد أن احدًا يرغب العيش في جهنّم، التي بشّر بها فخامة الرئيس، إلّا عنترة بن شدّاد لمّا قال؛ " وجهنّم بالعز أطيب منزلِ". فهل نجعل من لبنان جهنّمًا كرمى لعينيّ فارس بني عبس؟

 

 

   إنّ هول الكارثة يتجلّى حين نسمع عبارة العزيز؛ "ما خلّونا". هل المطلوب أن نقنع أنفسنا بأننا ولدنا أغبياء بالفطرة، وعندنا ميل طبَعي للرضوخ الطوعي للعيش في طوابير الزيت والبنزين، وانتظار "الكراتين" لأنّهم... "ما خلّونا"؟

 

 

   أمّا زلّات اللسان فتكشف المستور من الكلام الصحيح غير المُباح به، فالتلعثم السياسي يُنبئ أن الصحيح هو ما يُعاد تصحيحه، وهو ما نُطق به أولًا. فبين البطاقة الإنتخابية والبطاقة التموينية مسافة سنة. ليست ضوئيّة. بل كوكبًا وأحد عشر شهرًا.