كان منتظراً ومتوقعاً إجهاض المبادرة الاخيرة لرئيس مجلس النواب نبيه بري، على الرغم من الدعم المسبق الذي حصلت عليه من جانب الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله. لو حصل العكس لكانت مفاجأة غير متوقعة.

 

ذلك انّ ثمة حسابات متناقضة بين طرفي التشكيل حيال الوظيفة المرجوة للحكومة العتيدة. فريق رئيس الجمهورية الذي يريد لهذه الحكومة ان تشكّل «جرّافة» لإعادة فتح الطريق امام العودة السياسية لجبران باسيل من خلال استحقاقي الانتخابات النيابية والرئاسية، وفريق رئيس الحكومة الذي يحرص على عدم خسارة شارعه عند أعتاب الانتخابات النيابية وسط تحدّيات عدة له، كما أنّه يزيد من احتمالات اعادة فتح ابواب السعودية مجدداً.

 

لذلك بدت باريس يائسة بعد نحو 9 اشهر من طرحها «حكومة المهمّة». في الواقع، تعاطى الفرنسيون بشيء من البراءة مع «ثعالب» الطبقة السياسية اللبنانية. كان الاعتقاد السائد وهو اعتقاد منطقي، أنّ الكوارث والانهيار الاقتصادي والافلاس المالي، تدفع اي طبقة سياسية في العالم الى وضع المصلحة العامة وحال الطوارئ في الاولوية، وترك المصالح السياسية الخاصة والضيّقة جانباً. لم تنفع اغراءات الرئيس ايمانويل ماكرون ولا تقريع وزير خارجيته جان ايف لودريان لاحقاً.

 

وبقيت قاعدة التشكيل السائدة هي حول الأحجام والحصص والمصالح السياسية والانتخابية. ربما ما يشجع هذه الطبقة السياسية على جشعها وانانيتها هو استمرار وجود فئة تصفق وتصطف خلف هذا الفريق او ذاك. صحيح انّ هذه الفئة لم تعد كبيرة، لكنها موجودة رغم انهيار مؤسسات الدولة وتحوّلها حطاماً متناثراً وانسداداً في الأفق.

 

وخلال الاجتماع الذي عُقد في قصر بعبدا، لم يعد سراً انّ صداماً حامياً وقع بين النائب جبران باسيل وأحد اعضاء الوفد الثلاثي الشيعي، الذي اتهم باسيل بالانقلاب على المرونة التي اظهرها على امتداد الايام التي سبقت. وتردّد أنّ «حزب الله» بدا منزعجاً لا بل مستاءً مما سمعه، قبل ان يطلب السيد نصرالله ليلاً من فريقه معاودة التواصل مع باسيل في اليوم التالي لتأمين ولادة حكومة الـ 8-8-8 وعلى قاعدة انّ لا ثلث معطلاً لأحد ولا حتى بالمواربة. لكن النتيجة بقيت سلبية وسط تبادل عنيف للقصف بالبيانات بين قصر بعبدا وتيار «المستقبل».

 

وحتى البيان القاسي والخطير للبنك الدولي لم يدفع الى تليين الكباش حول تسمية الوزيرين المسيحيين. لذلك بدت باريس مقتنعة بأنّ «حكومة المهمّة» باتت مستحيلة، فأي طرف سياسي مشارك فيها سيقبل بالذهاب الى اصلاحات مؤلمة وغير شعبية على ابواب الانتخابات النيابية. لذلك، فالأفضل قد يكون باستبدال «حكومة المهمّة» بحكومة الانتخابات. لكن باريس تخطئ الحساب مجدداً، ربما لعدم ادراكها كيف تفكر وتحسب الطبقة السياسية اللبنانية. ذلك انّ العِقّد ستبقى هي هي، طالما انّ النزاع قائم حول طريقة تسجيل النقاط الانتخابية والامساك بالقرار لحظة حصول الفراغ الرئاسي، وفي الكواليس ثمة حسابات وسيناريوهات أبعد وأخطر.

 

ذلك أنّ هنالك في السلطة من يعتقد أنّ ما يحصل الآن هو في اطار الضغط الخارجي، لأنّ العواصم الكبرى لن تقبل بتحلّل لبنان وزواله، وبالتالي، هنالك خط احمر لن يتجاوزه احد. واستطراداً، فإنّ هذه العواصم التي تعمل على حماية الجيش اللبناني، تدرك جيداً أنّ الانهيار لن يتخطّى خطاً مرسوماً ومحدّداً بعناية. صحيح انّ الناس ستدفع الثمن غالياً، لكن مساحة النفوذ داخل السلطة لا يجب ان تتأثر.

 

ووفق هذه الحسابات، فإنّ الاستمرار في الأزمة الحكومية الى ما شاء الله مسألة محتملة جداً. والى جانب هذه الازمة سينشب نزاع آخر له علاقة بطرح تعديل قانون الانتخابات، وهو ما سيحدث في فترة ليست ببعيدة.

 

وقيل انّ هذا الطرح سيتضمن الدعوة الى اقتراح وجود صوتين تفضيليين، اضافة الى توسيع الدوائر الانتخابية، وثالثاً لخفض نسبة الحاصل الانتخابي. سيسيل لعاب بعض القوى لهذه التعديلات بسبب تراجع شعبيتها، فيما سترفضها قوى اخرى وبشدة.

 

هذا الجدل الى جانب الازمة الحكومية سيدفعان الى عدم الدعوة للذهاب الى الانتخابات، وفي الوقت نفسه لن تنجح محاولات التمديد للمجلس النيابي، والذي هو في حاجة الى ثلثي الاصوات. ومعه يتحدث هذا السيناريو عن انهيار مؤسسة المجلس النيابي الى جانب مجلس الوزراء. هو سيناريو خيالي ولكن يجري التداول به في الكواليس الضيقة، مع الاشارة الى واقع اعادة تركيب المنطقة بدءاً من سوريا. لكن ثمة حسابات مختلفة تماماً في العواصم الغربية.

 

عندما جاء الرئيس الفرنسي الى لبنان في زيارته الثانية، حمل معه هديتين: الاولى، لقاؤه العلني والرسمي بوفد «حزب الله» على ارض فرنسية. والثانية، اقتراح اجراء انتخابات نيابية مبكرة، الذي وضعه جانباً. في الواقع لم يكن الرئيس الفرنسي ليُقدم على منح هاتين الهديتين لولا استناده الى مشاورات مع واشنطن جعلته يستعجل في هديتاه. صحيح انّ دونالد ترامب كان لا يزال موجوداً في البيت الابيض، لكن ادارته كانت تستعد لمفاوضات مع ايران، وهو ما اعلنه بوضوح وصراحة خلال حملته الانتخابية. وهو ما يعني انّ الكواليس الاميركية ـ الفرنسية كانت تتحدث عن صورة جديدة في المنطقة، مما جعل ماكرون يذهب في اتجاه الجلوس مع وفد «حزب الله» وعدم الذهاب في مشروع انتخابات نيابية مبكرة. الأكيد انّ الرئيس الفرنسي تسرّع في تقديم هديتيه من دون مقابل. ولذلك كان يصفه ترامب بأنّه يكثر من الكلام، ما يجعله يقع في الاخطاء، ذلك انّه كان ثمة توقيت لا بدّ من احترامه.

 

في اختصار، فإنّ الانتخابات النيابية المنتظرة قد تكون مجرد استحقاق نيابي لبناني داخلي في منظارنا، لكنها تشكّل حداً فاصلاً بين مرحلة واخرى بالنسبة الى العواصم الغربية، تماماً كما كانت انتخابات العام 2005. يومها، ورغم حدوث زلزالين كبيرين هما اغتيال رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، حصلت هذه الانتخابات بقرار دولي. ثمة شيء مشابه الآن، ولكن الزلزال هو اقتصادي ومالي.

 

واستطراداً، فإنّ الانتخابات المبكرة من دون تحضير المسرح اللبناني لن تعطي الفائدة المرجوة، ذلك انّ المطلوب توازنات نيابية جديدة ومعادلة سياسية اخرى في مجلس النواب، ولكن مع الاعتراف بـ»حزب الله» كقوة اساسية موجودة، اي تعديل الغالبية النيابية ولكن من دون الذهاب الى مواجهة مع «حزب الله»، بل على العكس في مقابل الاعتراف به.

 

لذلك، تبدو العواصم الكبرى مصمّمة على حصول الانتخابات النيابية في لبنان مهما حصل. وبخلاف عدد من الحسابات فإنّ الرهان الغربي هو على ظهور طبقة سياسية نيابية جديدة.

 

عدد من القوى السياسية اجرى استطلاعات ودراسات انتخابية: «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية». حتى «حزب الله» اجرى استطلاعاته على الساحة المسيحية كونها الساحة التي تشهد التبدلات في المزاج الشعبي، الى جانب الساحة السنّية. لكن اهمية الساحة المسيحية انها هي التي تؤمّن استمرار الغالبية النيابية الحالية.

 

نتائج هذه الاستطلاعات الثلاثة كانت متشابهة لناحية التبدّلات التي حصلت.

 

اللافت، انّ نحو 65% من المسيحيين يرفضون كل الاحزاب والقوى السياسية، وبالتالي فإنّ اي انتخابات مبكرة وغير منظمة ستؤدي الى عشوائية في الترشح وتعدد اللوائح، وفي اختصار ضياع قدرة تأثير هذه الشريحة.

 

ونُقل عن سفيرة دولة اساسية، انّ بلادها لن تتدخل في التفاصيل الاسمية للوائح، لكنها ستتدخّل فقط في اتجاه توحيد اللوائح. وخلال الاسابيع الماضية حاول «التيار الوطني الحر» اعادة بعض الحيوية له في الشارع المسيحي من خلال خطاب المظلومية وصراخ الحفاظ على الحقوق المسيحية، لكنه لم يعطِ النتائج المرجوة.

 

من جهتها، حاولت «القوات اللبنانية» جسّ نبض الشارع المسيحي من خلال استخدام خطاب اقصى اليمين. فكانت المواجهة في نهر الكلب مع الحافلات السورية، وقدّم لها الحزب السوري القومي هدية ثمينة عملت على الاستفادة منها فوراً.

 

صحيح انّ ما عملت عليه أنتج شدّ عصب لدى جمهورها، لكنه لم يؤدِّ غايته في مجمل الشارع المسيحي. وهاتان الإشارتان مشجعتان للذين يراهنون على الاستحقاق النيابي. يعتقد هؤلاء انّ الوجع المسيحي في مكان آخر، وانّ مخاطبته قد لا تتأخّر. وانّ «جشع» السلطة وانانيتها تساعدهم على تعبئة الشارع. لكن قبل ذلك سيحصل تواصل بين واشنطن وباريس و»حزب الله»، والهدف منه تأمين الضمانات السياسية المطلوبة من الحقبة اللبنانية الجديدة، وتعبيد الطريق امام الاستحقاق النيابي ولم لا الرئاسي. لكن التوقيت قد ينتظر ولادة الاتفاق النووي، والبدء بتحضير الساحتين اللبنانية والسورية.

 

في منتصف هذا الشهر سيلتقي الرئيسان الاميركي والروسي في قمة هي في غاية الاهمية. صحيح انّ البنود والمشكلات كثيرة ومتعددة، لكن هنالك بنداً يتعلق بسوريا وضمناً سيطاول لبنان.