بعد سبت «التصعيد» الذي شهدته صالة الأونيسكو توالت المبادرات اليومية، فكان الأحد لمبادرة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي والاثنين لرئيس مجلس النواب نبيه بري والثلاثاء للأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصرالله. وبعدما أجمعوا على تشكيل حكومة بالاتفاق بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، في اعتبار انّ العقد «داخلية»، هل هناك ما يوحي بإمكان انقلاب الصورة فلا يكون التصعيد للتصعيد؟

يرغب المتفائلون على قلّتهم في ان تكون المبادرات التي اطلقت عقب جلسة مناقشة رسالة رئيس الجمهورية الى المجلس النيابي فاعلة ومنتجة لطَي مظاهر التصعيد التي شهدتها، مخافة ان يزداد الشرخ بين عون والحريري ومن يدعمهما في المواجهة المفتوحة منذ ان انتهت إليه الاستشارات النيابية الملزمة العام الماضي والوصول الى مرحلة اللاعودة. فما شهدته الجلسة وما سبقها وتلاها من نَعي لإمكان ولادة الحكومة العتيدة زاد من نسبة القلق على المستقبل.

 

ولا ينكر هؤلاء انّ نسبة الانهيارات الهائلة التي اقتربت من ان تكون شاملة على مستوى السلطات والمؤسسات الرسمية والقطاعات الحيوية على مستوى الوطن تُنذر بكثير ممّا يهدد سلامة الدولة وكيانها وصولاً الى مرحلة لا يمكن عندها القيام بما يمكن ترميمه أو إصلاحه. وفي اعتقادهم أنه لا بد لأركان السلطة ومن بيدهم قرار الحل والربط من القيام بأي خطوة توحي بأنهم يتفهمون حجم المخاطر التي تهدد مواقعهم قبل ان تطاول المواطنين المُكتوين بنيران الازمات المتتالية التي تقض مضاجعهم. وانه لا بد لهؤلاء من التعاون من اجل فرملة الامور التي تتجه بسرعة قياسية نحو ما هو أسوأ.

 

على هذه الخلفيات، يتطلع المراقبون من مختلف الاطراف الى سلسلة المبادرات الاخيرة في محاولة لقراءتها بعيون ايجابية ومن أجل تحديد مدى تطابقها لمجموعة الملاحظات والنصائح الاممية والدولية التي ما زالت تعطي المبادرة الفرنسية الاولوية. فهي في نظرهم ما زالت الحل الوحيد المبرمج للخروج من مسلسل الانفاق المظلمة التي تعيشها البلاد، ومن أجل فرملة هذا الاتجاه الخطير مع العلم المسبَق انّ تشكيل الحكومة العتيدة قد لا يكون «الحل السحري»، إنما لا يمكن لأي مشروع حل إلّا العبور من بوابة الحكومة العتيدة، على ان تكون حكومة من الحياديين المستقلين التي لا يمكن ان يتحكم أحد، لا بثلثها ولا بنصفها زائداً واحداً على الأقل. ولتكون في شكلها ومضمونها وتركيبتها ما يوحي بإمكان استعادة الثقة الخارجية كما الداخلية للعبور الى المراحل اللاحقة التي رسمتها خريطة الطريق الى الانقاذ والتعافي.

 

على هذه الأسس توقفت المراجع امام المواقف الثلاثة الاخيرة التي اطلقت من بكركي وعين التينة والضاحية الجنوبية، من أجل تفسيرها على انها متناغمة ومقصودة ولو بنَحوٍ غير معلن. ذلك انّ ما يجمع في ما بينها كبير ويعبّر عن بداية توافق داخلي على توصيف المخارج. وهي ملاحظة تنطلق من سلسلة اعتبارات لا بد من رصدها، وخصوصاً إجماعهم غير المتوقع على اعتبار انّ العقد التي تحول دون ولادة الحكومة المنتظرة هي داخلية بحتة، وان سوء العلاقات الشخصية بين عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل من جهة والحريري من جهة أُخرى بات يتحكم بالولادة الحكومية التي يمكن ان تكون طبيعية لو التقى الجميع على قراءة واحدة لأسباب ما يجري، فلا يحتاجون الى عملية قيصرية غير مضمونة النتائج ان جاءت عملية التأليف من دون رضى الأطراف كافة.

 

والى هذه المعطيات، ربطت المراجع المعنية بهذه القراءة بين هذا الحراك في شكله ومضمونه وبين ما تسرّب من تفويض خارجي أعطي لكل من بري والراعي نظراً لقدرتهما على التحرك داخلياً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بملف العلاقات الواجب قيامها بين عون والحريري دون غيرهما من المواقع في ضوء ما انتهت إليه جلسة مجلس النواب والطلب الواضح من الطرفين التنسيق والتعاون على توليد حكومة جديدة.

 

وإن أصرّ البعض على الحديث عن عناصر خارجية تعوق الحل، كأن يقال انّ طهران لا تريد حكومة في لبنان اليوم أو أن السعودية ترفض وجود حكومة برئاسة الحريري، فإنّ بعض المواقف الاخيرة قَلّلت من اهمية هذه العناصر، ودعت الى الاقلاع في الخطوات الداخلية لخلق جَو جديد من التعاون يمكن استثماره في إعادة إحياء الثقة الخارجية بالحكم في لبنان. وفي عِلم العارفين بالتوجّهات الفرنسية انّ الترتيبات الجارية لزيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للرياض في النصف الأول من حزيران المقبل لربما فتحت ثغرة في الحصار الخارجي الذي يعانيه لبنان، يمكن ان يساهم في إحياء برامج المساعدات الخليجية له او على الاقل اعادة الملف اللبناني الى طاولات المانحين بعدما عَبّروا عن إهمال غير مسبوق لهذه الجهة أبعدت لبنان عن برامج نشاطاتهم وعنايتهم المادية والسياسية بعد الديبلوماسية.

 

وإن توقّف المراقبون أمام العقدة الإيرانية فقد رأوا في موقف الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله أمس الأول إشارة واضحة الى امكان ان تكون طهران متعاونة مع حكومة بالمواصفات التي يتحدث عنها الجميع، وانّ هامشاً واسعاً للحركة لديه يمكنه ان يخوض في كثير من تفاصيل المرحلة المقبلة بتفويض لا نقاش فيه ولا شكوك في حجمه وقدرته على التماهي مع اي حل من هذا النوع. فالحزب سجّل منذ جلسة السبت الماضي موقفا حياديا وضَعه على مسافة واحدة من طرفي النزاع اي عون والحريري، وهو ما يؤهّله ليكون داعماً لأي مبادرة يرعاها بري ويقود الاطراف المختلفة اليها عبر صيغة جديدة تتناول طريقة تسمية الوزراء المسيحيين بطريقة تُنهي الخلاف من حولهما كما إطفاء اي حديث عن الثلث المعطل أو اي صيغة أخرى، إن كان صحيحاً أنّ الخلاف يدور حول تسمية وزيرين وتوزيعة حقيبتين، وهذا الأمر يعني وزارتي الداخلية والعدل.

 

وانطلاقاً مما تقدم، تنطلق الرؤية لتقدير المرحلة المقبلة إن صَحّت هذه القراءة المتفائلة والنظريات التي عزّزتها، لتكتمل فصولها بما ستحمله الايام المقبلة من خطوات تعزز هذا الاتجاه، أو أن تنفي وجوده من أساسه ليعود الجميع كلّ الى متراسه السابق. وهو ما سيؤدي الى مزيد من الانهيارات إذا عَبر الدولار عتبة الـ 13 الف ليرة الى رقم لا يستطيع احد تقديره منذ الآن. وليكون ما عبر عنه إضراب الاتحاد العمالي العام في الامس وما انتهى اليه مشروعاً قابلاً للتكرار في اي يوم آخر قد يحمل رسائل أكثر وضوحاً، فالتجارب السابقة ما زالت ماثلة في الأذهان ولا حاجة للتذكير بمحطات سابقة استغلّ فيها الاتحاد لقيادة البلاد الى مكان آخر.