تشهد البلاد، منذ بداية العهد الحالي جولات غير مسبوقة من السجالات والكيديات وتبادل الاتهامات، الداخلية والخارجية، والجميع يستحضرون الماضي البعيد والقريب، وهم يديرون ظهورهم الى المخاطر التي تعصف بالبلد، او لا يعيرونها الاهتمام المطلوب. 

 


تواصل السلطة الحاكمة على المقلب الآخر ردم كل فرص إنقاذ البلد وتعميق الحفرة الجهنمية أكثر فأكثر تحت أقدام أبنائه، على وقع النبش الرئاسي والسياسي المستمر عن مزيد من الحصص والمغانم في التشكيلة الوزارية العتيدة.


 
وفي هذا الإطار،تأتي الرسالة التي وجهها رئيس الجمهورية ميشال عون، الى مجلس النواب، وحملت مجموعة من المغالطات بهدف تبرئة ذمته من تعطيل تشكيل حكومة الانقاذ، وما الت اليه اوضاع البلد بعد نحو عشرة اشهر من الشغور الحكومي، على المستويات السياسية والاقتصادية والمالية والمعيشية، هذه الرسالة التي حملت في طياتها كل اسباب اشتعال الاشتباكات السياسية  الاعلامية، وقد تفتح الابواب امام انزلاقات ليست في مصلحة احد
من المؤسف ان يكون سيد العهد، وفريقه، من ابرز مؤججي هذه الازمات، التي تتقاطع مع ازمة تشكيل حكومة تنقذ البلد مما هو فيه، وتضعه على سكة الصواب والعدالة والمساواة من غير تمييز بين ابنائه ومكوناته الطائفية والمذهبية والمناطقية، حيث المناصفة المسيحية  الاسلامية هي الاساس، والبلد يعتمد في المبدأ الديموقراطية البرلمانية، كما ومن ابرز مؤججي النيران السياسية الاعلامية تحت صفيح ازمة تشكيل الحكومة العتيدة، العالقة منذ اشهر. 

 


القاصي والداني يدرك ان سيد العهد عازم على تنفيذ الانقلاب على اتفاق الطائف والعودة بالصلاحيات الرئاسية الى ما قبله، وهو الاتفاق الذي توج مساعي اخراج لبنان من ازماته وحروبه الداخلية وحروب الاخرين على ارضه، وهو الاتفاق الذي اكد ان لبنان وطن حر ومستقل، نهائي لجميع ابنائه، واحد ارضا وشعبا ومؤسسات، جمهورية ديموقراطية برلمانية، والشعب مصدر السلطات، في نظام يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، وتوازنها.

 


لقد حدد الطائف صلاحيات رئيس الجمهورية وحقوقه الدستورية وواجباته المقيدة بأحكام الدستور، كما وحدد صلاحيات رئيس مجلس الوزراء الذي هو رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم بإسمها ويعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء، والحكومة لا تمارس صلاحياتها قبل نيلها الثقة النيابية، ولا بعد استقالتها، ولا اعتبارها مستقيلة الا بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال، وعندما يحضر رئيس الجمهورية يترأس الجلسات، من غير المس بالصلاحيات.

 

 

إن رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة، يمثلها ويتكلم بإسمها، ويعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء، على ما ينص «الطائف»، وليس من حق رئيس الجمهورية، ولا من صلاحياته التمادي في وضع عصي العرقلة امام عربة التأليف، ويقلب الصورة «رأسا على عقب»، متهما الرئيس المكلف «بالعجز عن تأليف حكومة قادرة على الانقاذ، وهو، اي الرئيس عون، يأسر التأليف بعد التكليف كما يأسر الشعب والحكم، ويأخذهما معا رهينة، والبلد كله على ابواب الهاوية.

 

إقرأ ايضا : أحداث غزة تطغى على الملف اللبناني

 

 


الداخل اللبناني، والخارج الدولي والاقليمي، يدركان اين يكمن تعطيل ولادة حكومة الانقاذ، ورئيس الجمهورية قبل غيره يضع العصي بالدواليب، وهو المتمسك بخرق الطائف والعودة بالصلاحيات الرئاسية الى ما كانت عليه قبل الاتفاق المعزز داخليا ودوليا واقليميا، والجميع يسأل الى اين يريد الفريق العوني اخذ البلد، والمخاطر تحيط به من كل جانب .

 


لربما يمكن القول ان رسالة الرئيس عون لا تعدو كونها محاولة لغسل اليدين وتبرئة الذمة مما الت اليه اوضاع البلد، والانظار تتجه الى الاتي من الايام، خصوصاً لجهة الاداء الرئاسي، الذي لا يعبر سوى عن محاولات للعودة بالبلد الى ما قبل الطائف، للقبض على صلاحيات رئيس الحكومة وتجاوزها.

 


الرسالة العونية الى المجلس النيابي تشكل انقلابا حقيقيا على الدستور، وتطيح مبدأ الفصل بين السلطات والاسس التي يقوم عليها النظام الديموقراطي  البرلماني الذي يعتمده لبنان، على ما قال رؤساء حكومات سابقين، خصوصا وان الاوضاع والتطورات التي تمر بها المنطقة، لم ولن تبقي لبنان بعيدا عنها، وهي تهدد بمخاطر لا تحمد عقباها.

 


 
لم يقتنع حتى الآن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ان النظام في لبنان ليس رئاسياً خصوصا بعد اتفاق الطائف الذي حدد بوضوح صلاحيات رئيس الجمهورية. وبسبب عدم قناعته بهذا النظام تشهد البلاد كل يوم خرقاً فادحاً لبنود هذا الاتفاق. والرسالة التي وجهها العماد ميشال عون الى مجلس النواب أسطع دليل على ان رئيس الجمهورية المعارض اساساً لاتفاق الطائف منذ كان رئيساً للحكومة العسكرية دليل اضافي على خرق الدستور. فالرسالة خالية من اي قيمة دستورية اذ قد لا يتجاوب معها مجلس النواب اما بتطيير النصاب القانوني لانعقاد جلسات المجلس او في اصدار تمن بتشكيل حكومة في أقرب وقت وهذاما حصل بالفعل 
حيث بعد كلمتي الحريري وباسيل، أعلن الرئيس برّي موقف المجلس النيابي، وهو التمسّك بتكليف الحريري وأي موقف غير ذلك يتطلّب تعديلاً في الدستور، وهذا الأمر غير وارد .  

 

 

ختاماً أنّنا بالحقيقة نشعر بالخجل. ندفن رؤوسنا، ونلطم وجوهنا، ونلملم ما بقي من شظايا صورتنا المكسّرة. ليست القضية محصورة بتشكيل حكومة بل بنسق مرضيّ أخذ يتعمّم ويتوسّع في كل مفاصل الحياة السياسية والوطنية والاجتماعية. وهو نسقٌ يتغذّى من ذهنية غائرة في التسطيح والشوفينيّة والبذاءة القصوى، ومن قلوب محشوّة بالحقد والقيح والضغائن والكراهيات .