على حافة العهد، لا يبدو الرئيس ميشال عون متحمِّساً للمهادنة، كما كان عندما داست رِجلاه بلاط القصر في العام 2016. فخلال 5 سنوات مضت، هو لم يحَقِّق شيئاً من الأرباح في موقع الرئاسة. وتالياً، لم يملك العهد شيئاً يخاف أن يخسره. فقط يريد عون الاطمئنان إلى مصير الرئاسة بَعد انتهاء ولايته: فراغ، تمديد، رئيسٌ «غير مرغوب فيه» أم الوزير جبران باسيل؟ وفي الموازاة، القوى الإقليمية ترصد كل شيء وتدرس الخيارات.

بالتأكيد، يدرك الرئيس عون أنّ مفاعيل رسالته إلى المجلس النيابي تتجاوز ملف تأليف الحكومة والمناكفة السياسية «الممجوجة» بين فريق العهد والرئيس سعد الحريري. وهو يعرف أنّ للخطوة أبعاداً ميثاقية، ومع ذلك أقدَم عليها.

 

وفي العمق، يبدو البلد وكأنّه قد دخل مرحلة اللعب في صلب التوازنات القائمة بين الطوائف، والتي كرَّسها اتفاق الطائف وصارت جزءاً من الدستور، وساهم السوريون في رعايتها بين 1990 و2005.


 
 

بقي الرئيس عون، وحتى مجيئه إلى رئاسة الجمهورية، يعلِّق على الطائف كل الخطايا ونكبات البلد والنظام السياسي. وهذا أمر بديهي. فـ»الجنرال»، شخصياً، له ثأر على الطائف الذي كان عنوان هزيمته السياسية والعسكرية في العام 1989. وهو الذي اقتلعه من قصر بعبدا حيث كان يجهِّز الأرضية للجلوس على الكرسي.

 

ولكن، الأهم هو أنّ استهداف عون للرئيس سعد الحريري، برسالته إلى المجلس، يشكّل ثأراً رمزياً من والده، «راعي الطائف»، الرئيس رفيق الحريري الذي دخل إلى البلد، بواسطة الطائف، منتصراً، وأدار برصيده القوي منظومة الحكم لسنوات عديدة، على حساب موقع رئاسة الجمهورية.

 

لقد كانت للحريري الأب يدٌ طولى في تكريس خطوط اللعبة خلال تلك المرحلة، وفي رسم الحدود بين الرئاسات ومصائر اللاعبين السياسيين، تحت مظلّة الراعي السوري. وخلالها، جرى إقصاء عون عن اللعبة، لعلّه يريح ويستريح.

 

خلال فترة «النفي» الباريسي، أمعن عون في الاعتراض على الطائف ومعارضة رموزه. وآنذاك، لم يكن للرجل ما يخسره. ففتح المواجهة على مداها بلا حساب. ولكن، تبدَّلت المعادلات إقليمياً ودولياً في العام 2005 وأحدثت الانقلاب في لبنان: إقصاء الحريري، ثم خروج سوريا. وعودة عون.

 

في البيئة العونية يُقال: لم تتغيَّر يوماً نظرتنا إلى الطائف. فقد بقيت دائماً اعتراضية، على رغم إعلان الرئيس عون مراراً أنّه قد «تَصالَح» مع الاتفاق. وفي اعتقاد المطلعين أنّ هذه المهادنة ليست سوى تكتيك تفرضه الظروف، وأنّ «الثأر» من الطائف يبقى هدفاً يريد العونيون تحقيقه عاجلاً أو آجلاً.


 

ضمناً، يدرك العونيون أنّ هناك قوى تشاركهم الرغبة في نسف الطائف أو تغييره. وعندما عاد «الجنرال» إلى لبنان، العام 2005، سرعان ما أبرم تفاهم مار مخايل مع «حزب الله». فـ»الحزب» تناسبه بعض جوانب هذا الاتفاق، خصوصاً عندما تولّى السوريون تطبيقه. ولكن، عون و»الحزب» يجمعهما الاعتراض على تضخيم الطائف لدور رئيس الحكومة، برعاية سعودية. والسوريون يشاركونهما هذه النظرة.

 

ماذا يعني اعتراض فريق عون السياسي على الطائف؟

 

الاعتراض الأساسي يتعلق بانعدام التوازن بين الطوائف على حساب المسيحيين وشراكتهم في النظام، ولاسيما إضعاف موقع رئاسة الجمهورية. ولكن، هذا المعنى من الاعتراض لا يقتصر على عون، وقد شاركه فيه رموز مسيحيون خلال المرحلة السورية.

 

فمن الرئيس الياس الهراوي إلى الرئيس إميل لحود، كانت دوائر رئاسة الجمهورية تخبّئ دائماً مشروعاً لتعويم موقع الرئاسة وتصحيح الخلل الذي أضعف صلاحيات الرئيس. ولكن، بسبب الرصيد السياسي الذي تمتّع به الحريري الأب، وقوة توافقاته مع دمشق وحلفائها في لبنان، لم تتمكن أي مرجعية مسيحية خلال تلك الفترة من هزّ الطائف.


 
 

ولكن، ثمة من يعتقد أنّ ما يريده عون فعلاً من الطائف يتجاوز التوازن بين الطوائف، وأنّه يتناغم مع محور طهران- دمشق الذي يحتاج إلى تغطية مسيحية للنفوذ، خصوصاً بعد خروج القوات السورية من لبنان. وهناك أيضاً مَن يقول: إذا فُتِح الطائف، فلا شيء يضمن تصحيح التوازن لمصلحة المسيحيين، لأنّ التوازنات في لبنان تخضع دائماً لمنطق الأقوى. فمَن هو الأقوى؟

 

إذاً، هناك مَن يشجع إعادة البحث في الطائف. وعندئذٍ، لن يقتصر النقاش على تقاسم السلطة، بل سيتجاوزها إلى تحديد الراعي الخارجي للتسوية المفترضة. وعلى الأرجح، في جو الانهيار الداخلي يمكن تَوقُّع المفاجآت التي قد تبدو عفوية، ولكن لا شيء يمنع من أن تكون منظَّمة.

 

فبماذا تُذكِّر الصدامات التي جرت أمس، في «مناطق مسيحية» بين كسروان والأشرفية، بين سوريين مؤيّدين للرئيس بشّار الأسد ولبنانيين من بيئة «القوات اللبنانية» والكتائب، وإلى أين يمكن أن يؤدي هذا المناخ وسط التفكّك الداخلي الحاصل؟

 

وما مغزى التهديدات التي حرص رموز دمشق على التلويح بها، بوضوح، وقد انحاز إلى جانبهم رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل؟ وكيف يمكن أن ينعكس هذا المناخ على مسار الأزمة الداخلية والتسويات المفترضة؟

 

الأوراق تُخلَط بعنف على رقعة الشرق الأوسط. والقوى الإقليمية تحصِّن مواقع نفوذها لبنانياً، بالدعم الذي تقدِّمه إلى وكلائها وحلفائها داخل النظام والمؤسسات، وعلى الأرض. وفي الأفق، تلوح مطالبة بعض القوى بالمؤتمر التأسيسي، ومعها «الجنرال» بما يختزن من دفاتر عتيقة وذكريات حزينة تجاه الطائف. فهل اقترب موعد النقاش في الطائف؟