لم يعد الحديث عن «الفرص الذهبية» التي أضاعها اللبنانيون في السنوات الاخيرة مستغرباً، فالقاصي والداني يعرف حجمها وإن استفاض في إحصائها لا تتسع له موسوعة. وتزامناً مع اندلاع المواجهات في فلسطين المحتلة عاد الحديث بقوة عما فوّت اللبنانيون من فرَص ليكون لبنان اليوم في وضع أفضل لمساندة الشعب الفلسطيني قبل ان تصح فيهم رواية «دعم المكرسح للأعرج برعاية الاعمى». فكيف الوصول الى هذه المعادلة؟

 

في موازاة ما يسيل من حبر وما تصدح به الحناجر من مواقف وما تنقله الشاشات من مظاهر الاحتجاج على الحدود العربية المحيطة بالاراضي المحتلة رفضاً لما يجري في قطاع غزة، تضج الصالونات السياسية والديبلوماسية في لبنان بكثير مما لا يتطابق مع هذه المشاهد التي وإن كان لها ما يبررها في عقيدة البعض وتوجهاتهم السياسية فهي تثير كثيراً من القلق على الجبهة الداخلية اللبنانية المفككة على أكثر من مستوى.

 

وفي الوقت الذي يبذل بعض الاطراف جهوداً تتعدى المألوف من اجل التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني في ظل الازمة الداخلية الخانقة، بالنظر الى حجم ما يرتكب من مجازر هناك، يتطلّع آخرون الى الخاصرة الداخلية اللبنانية الهزيلة التي لا تحتمل اي حادث امني كبير بحجم ما يمكن ان تؤدي اليه أي «دعسة أمنية خاطئة» يمكن ان تحصل على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة. وهي «حادثة» واردة في اي لحظة في ظل ما تشهده المنطقة من توتر، وقد تؤسّس في لحظة من اللحظات الى حادث أمني لا يمكن استيعاب تردداته بسهولة مهما كان هناك من تفهم لواقع الحدود الجنوبية وطريقة توزيع القوى هناك.


 
 

وعليه، فإنّ ما رافق عملية اطلاق ثلاثة صواريخ كاتيوشا قبل ايام من جوار مخيم الرشيدية في اتجاه الأراضي المحتلة يثبت حجم «التفهم» الذي أظهرته مختلف الأطراف حتى المتنازعة في ما بينها. وإن كان لا يمكن التشبيه بين الاستثناء المعترف به والقاعدة الثابتة التي يمكن ان تغير الواقع، فإنّ التأكيد الاسرائيلي الفوري الذي أعقب اطلاق الصواريخ الثلاثة انها قد سقطت في البحر ولم تؤد الى اي اضرار، سارعت الجهات المعنية من الجانب اللبناني الى إدانتها وتسابق الاطراف المحليون بمن فيهم «حزب الله» الى نفي علاقتهم بالحادث. وحمّلت المسؤولية لـ»مجموعة فلسطينية غير منضبطة» ومعها تلاحقت تدابير القوات الدولية ( اليونيفيل) لضمان الهدوء في المنطقة وتوضيح الموقف، ومعها الجيش اللبناني الذي اتخذ إجراءات فورية في المنطقة لتوقيف منفذي العملية فسبقتهم القوى الفلسطينية في المخيم الى توقيفهم وتسليمهم الى السلطات الامنية المعنية في المنطقة.

 

كان ذلك قبل ان يعمّم «حزب الله» امس على جميع الفصائل الفلسطينية والمجموعات الموجودة في الجنوب تجنّب اي عمل من هذا النوع، على خلفية ان القرار يعود للحزب وحده في هذه اللحظات الدقيقة واي خلل يتحمل مسؤوليته من يقوم به أو من يسمح به او يعجز عن ردعه. وليس في هذه النظرية ما يثير الشك في واقعيتها. وإن حصل ذلك لن يكون مستغرباً لأنّ المعادلة الجنوبية بوجهها اللبناني لا تسمح بأي خطأ من هذا النوع، فجميع القوى في المنطقة تعرف سلفاً حجم ردة الفعل المتوقعة في وقت لا تستطيع الدولة اللبنانية ومؤسساتها مواجهة اي حرب محتملة مع إسرائيل لألف سبب وسبب لا مجال لشرحها. وان كان الحزب يعدّ العدة لها منذ سنوات فهو يحتسب قدرة اللبنانيين على التحمل ما لم تكن العملية قد دخلت مسارا استراتيجيا تتقدم فيه مصالح محور الممانعة على المصلحة الداخلية اللبنانية وتتقدم على اي شيء آخر مهما غلا ثمنه.

 

ففي مثل هذه الحالة ليس من الصعب تقدير ما يمكن ان يتحمله اللبنانيون من اي حرب تشبه في جانب منها ما يجري في غزة منذ مطلع الأسبوع الماضي. فكل التقارير الاستخبارية والديبلوماسية تتوقع عمليات اسرائيلية لا تفصل بين مواقع يمكن ان تنسبه الى الحزب وصواريخه الدقيقة والمنشآت والبنى التحتية للدولة اللبنانية فهي ستكون الهدف الأول، وخصوصاً في مرحلة لا يفصل فيها الاسرائيليون ومعهم عدد كبير من القوى الكبرى بين ما تمتلكه الدولة والشعب اللبناني في ظل ما ينسب للحزب من اتهامات بالسيطرة على القرار الحكومي والسياسي اللبناني. فهو في نظرهم يقود الحكومة والدولة اللبنانية بمعزل عن الموقف الرسمي المشتت بين من يحافظ على «صمته المريب» ومن يتماهى مع المقاومة ومحور الممانعة نتيجة التحالفات الداخلية لرئيس الجمهورية وحلفاء «حزب الله» من مختلف الطوائف اللبنانية وفي مقدمها «التيار الوطني الحر» وأحزاب وشخصيات مختلفة لا تخفي آراءَها.


 
 

هذا من الجانب الأمني والاقتصادي، وان تطرق الديبلوماسيون إلى الجبهة السياسية الداخلية فحدّث ولا حرج. ولذلك تبقى الاخطار المقدرة اكبر بكثير من وجوهها الاخرى، ففي الامس كان الخبر اتصال رئيس الجمهورية ميشال عون برئيس مجلس النواب نبيه بري معايداً بحلول الفطر السعيد، مع العلم انّ الاخير كان قد ألغى زياراته الاسبوعية لقصر بعبدا منذ أشهر على وَقع تباينات كثيرة بينهما تعبّر عنها بيانات «التيار الوطني الحر» و حركة «أمل» وما توحي به من أجواء التحدي بينهما. وذلك في وقت تبدو القطيعة شبه شاملة منذ فترة طويلة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري، وما التسريبات المتبادلة والدعوات الى التنحي والاستقالة التي تتقدم على دعوات التعاون بينهما سوى تعبير واضح عن حجم الأزمة الخانقة بينهما. رغم انهما مكلفان دستورياً مهمة تشكيل الحكومة المفقودة والتي قد تمر ايام من دون ان يشير اليها اي حراك سياسي ونشاط رسمي وكأن البلد لا يحتاجها طالما انه بيد حكومة تصريف اعمال تتفرّج على ما يجري بعجز مطلق لا نظير له وتسابق اللبنانيين في شكواها.

 

على هذه الخلفيات، تنمو المخاوف على مستوى الوضع ككل في البلد، فما بلغته الازمة الناجمة من فقدان المواد الأساسية من ادوية ومحروقات وما تعانيه القطاعات الخدماتية من كهرباء وماء، وما بلغته نسبة الغلاء التي حجبت حاجات اللبنانيين عن قوت يومهم بحده الادنى سوى مظهر من مظاهر الخوف على المستقبل القريب والبعيد مخافة ان يحمل الانفجار المرتقب ما لا يتحمّله الشعب اللبناني. وان بقيت الحال على ما هي عليه اليوم ما الذي يمكن ان يقدمه لبنان لاخوته الفلسطينيين المظلومين في بلادهم؟ وهو ما قاد الى معادلة لخّصها أحد المطلعين على هشاشة الوضع بدقته وخطورته بالرواية التي تتحدث عن نية «المكرسح» تقديم خدمته لـ»الاعرج» برعاية وإشراف «أعمى» لا يرى عن قصد او غير قصد ما يحتاجه لبنان من مقومات الدولة والمجتمع الذي يمكنه ان يقدم الدعم لشعب آخر مهما جمعتهم من علاقات تاريخية وقومية ووطنية، في وقت بقي المعنيون عند سقوفهم العالية بلا أمل في تراجع اي منهم.